Culture Magazine Monday  24/09/2007 G Issue 217
فضاءات
الأثنين 12 ,رمضان 1428   العدد  217
 

لماذا يا بغداد؟!
إلى الشاعرة نازك الملائكة في مثواها الأخير
لميعة عباس عمارة

 

 

جئتُ من أقصى الغرب أتحامل على صحة لا تُعين؛ لأقدّم باسم كل العراقيين فروض الاحترام والتكريم - ولا أقول التأبين - لشخصية خالدة، هي نازك الملائكة. واعذروني من ترديد كلمة المرحومة؛ فالشعراء هم الكلمة المكتوبة والقصيدة المغناة ورياحين جلسات السمر.

قرأتُ لكل الشاعرات العربيات منذ الخنساء حتى زمن نازك، فوجدت عندهن أبياتاً أو قصائد رائعة تتفوق على نازك في ذات الغرض، وبخاصة الرثاء والحب، ولكن ليس بينهن من تتساوى مع نازك في الشاعرية، ولذلك أشهد بكل ثقةٍ أن نازك هي أشعر الشاعرات العربيات.

ولا أقول مثل ما قاله ناقد غبيّ عن إحدى الشاعرات: (لم يُخلق ولن يُخلق مثلها)؛ فنحن نعرف معنى (لم يُخلق) من قراءاتنا لشعر الشاعرات السابقات، ولكننا نجهل الغيب في (لن يُخلق).

تابعتُ مسيرة نازك الشعرية باهتمام منذ بداياتها الناضجة، فأعجبتُ بها وأحببتها ودرستها، ولم يتزحزح إعجابي بها ولا حبي لها وإن سكتت وإن رحلت.

لا أذكر أنني قرأتُ ديواناً أو كتاباً إلا وفي يدي القلم، أشير إلى ما أستحسن أو ما أقترح تغييره. ولم أجد في قصائد نازك موضعاً للضعف أو كلمةً يمكن إبدالها أو عبارة زائدة من قبيل الحشو للحاق بالوزن أو تمهيداً للقافية. كانت قصائدها مهما طالت لا يدركها التعب والوهن، آخرها بمستوى أولها، فشعر نازك يصلح أن يكون مادة أكاديمية لمدرّسي ودارسي الشعر العربي.

ونازك لها فضل على كل الشعراء الشباب؛ إذ فتحت لهم هي وبدر شاكر السياب باب الشعر المتحرِّر من القافية والتفعيلات المتساوية في كل شطر، فأقبل على هذا النمط عشرات بل مئات وألوف الشعراء؛ لسهولته أولاً، ولأنه يمثل تجديداً محبباً ومساحة للحرية.

أتساءل أحياناً: من أين تكوَّنت لنازك هذه الشخصية المتشائمة الكئيبة وقد عاشت في بغداد، وبغداد تختلف عن المحافظات بنمط معيشتها وبيوتها، وكان الانتقال من أيّ سكان إلى بغداد يعني تطوراً كبيراً ونقلة إلى عالم متمدن متحضر؟!

ونازك نشأت في أسرة متوسطة الحال ومثقفة، لم تُكلَّف بعمل غير دراستها، عاشت مدلَّلة، وما عرفت ذلة اليتم ولا غصة الفقر ولا الغبن الاجتماعي وتوالي الأمراض والنكبات، وحين ضجرت من التدريس تحوَّلت إلى إدارة المكتبة في ذات المدرسة (دار المعلمات الابتدائية)؛ أي أنها أعطيت التفرغ للقراءة والكتابة، وهي من أوائل النساء اللواتي امتلكن سيارة تقودها بنفسها.

ومع كل مقومات الفرح والسعادة جاءت قصائدها كلها مليئة بمفردات الأسى والحزن والألم والدموع والموت.. إلى آخر قاموس البؤس..

كيف ترى نازك العالم؟

رأيت الحياة كهذا المساء

ظلام ووحشةُ جوّ كئيب

ويحلم أبناؤها بالضياء

وهم تحت ليل عميق رهيب

وتصوِّر الشاعرة نفسها مع رجل على شاطئ النهر هكذا:

كان المغربُ لون ذبيح

والأفق كآبة مجروح

والأشباح الغامضة اللون

تجوس الظلمة في الآفاق

والنهر ظنون سوداء

والريح مراوح نكراء

والضفة أرض جرداء

كنا نتبع نعش الضوء

ونراقب خطو اللاشيء

اثنين يلوح على استغراقهما المبهم لون العشاق، ثم ترى سمكة ميتة طافية على الماء، وتستمر القصيدة في متابعة السمكة المخيفة التي تكبر وتلاحقها حتى آخر القصيدة الطويلة.

اثنان كنتُ أتعجب منهما، وأعجب بهما، ولا أستطيع أن أكون مثلهما، ولا أريد أن أكون: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة. كانا يعيشان من أجل الخلود، ويضعانه هدفاً تتهاوى من دونه كلُّ الرغبات. ظلّ بدر يكتب الشعر حتى في أسوأ مراحل المرض والألم ولآخر نفس؛ لأنه يفكر في الخلود. ونازك أعطت كل حياتها للشعر فقط سبيلها إلى الخلود، وهاأنتم ترون، وعساها ترى الآن من عليائها بريق هذا المجد.

العبقرية لا تتم بالموهبة والثقافة فحسب، إنها تحتاج إلى قدر كبير من الأنانية والتضحية، ولذلك قلّ عدد النساء العبقريات وكثر عدد العباقرة من الرجال؛ لأن للمرأة أولويات في الحياة وقدرة على التضحية من أجل الوفاء بالتزامات الأسرة، ونازك قد حرَّرت نفسها من هذه الالتزامات، لقد أعطت كلّ ما عندها من خزين الثقافة والموهبة والجهد لخدمة الشعر، أهملت أو تناست المرأة لمصلحة الشاعرة، فحوَّلت حياتها إلى عمل فني خالد.

ما رأيتها تتزين بالحلي والملابس الفاخرة، ولا عرفتها تستعين بوسائل التجميل، ولا لحقت بمهارات النساء المتباهيات بالطبخ وتدبير المنزل ورعاية الأطفال، كانت تتزين بالهدوء والكبرياء وفي داخلها عواصف من العواطف الأنثوية.

هاجرت قبورنا، وهجَّرَنا الوطن الذي تشبّثنا طويلاً به، فبلند الحيدري نام في لندن، والجواهري في الشام، ونازك في مصر، إلى آخر الذاهبين والمنتظرين والشعب نثار في كل القارات.. لماذا يا بغداد؟!

بغداد تائهة، أنا حيرى

من بعد صدرك لم أجد صدرا

حتى بأحلامي أدور لا أرى

بيتاً لأهلي فيك أو قبرا

لا أمس لا تاريخ لي فأنا

ممحوة من عالمي قسرا

لا جار لي كل البيوت خلت

من مات مقتولاً ومن فرا

والشعر حتى الشعر ينكرني

إني أجاهدُ لا أرى شعرا

بغداد يا أمي أجيبي متي

كيف الأمومة بُدِّلت غدرا؟!

* أُلقيت في جامعة جورج تاون بواشنطن دي سي بمناسبة أربعين الشاعرة يوم 8 سبتمبر 2007م.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة