يقول (زوربا) بطل رواية (كازانتزاكي)، الموسومة باسمه: (إنّنا لم نأكل، ولم نشرب، ولم نحب بما فيه الكفاية، إنّنا لم نحِيَ بعد!) ويبدو أنّنا لهذه الأسباب نتمسّك بالرواية، فنحن لم نشبع بعد، وربّما لا نملك وقتاً لنكمل طعامنا، وشرابنا، وحبّنا، لا وقت لدينا للحياة، لأنّنا محكومون بالموت.
الرواية وحدها تمنحنا فرصة أن نعيش حياة إضافيّة، عبر حيوات أبطالها، وتكوينات مجتمعاتها، وتمنحنا في الوقت ذاته الشعور بالرحابة، فهي النوع السرديّ الذي يستوعب غيره من الجنس السرديّ أو غير السرديّ. ولعلّ (كازانتزاكي) لا يكفّ في (زوربا) عن مقاربة كنه الرواية، أو أنّني أنا التي لا أكفّ عن استنباط فحوى العلاقة بين الرواية ورؤيته، إذ يقول على لسان الرئيس، المصاحب ل(زوربا):
*كنت أصغي إلى زوربا بصمت، وأقول في نفسي: ليتني أستطيع ألاّ أفتح فمي إلاّ عندما تبلغ الفكرة المجرّدة أعلى ذروة لها، عندما تصبح حكاية. فالحكاية سرّ آخر من أسرار الرواية، ما تزال الأخيرة تحتفظ به على الرغم من المحاولات المتطرّفة في اللعب، وتكسير البنية السرديّة لتغييبها، الأمر الذي استجابت له القصّة القصيرة، في حين بقيت الرواية تسرّب الحكاية رغماً عن محاولات بعض الروائيين الجادّة في تجاوزها.
سرقتنا الرواية، مبدعين ومتلقّين معاً، وهذا ليس في صالح السرد بشيء، لأنّ تراجع القصّة القصيرة مؤشّر دالّ على حالة سلبيّة في بنية ثقافيّة - اجتماعيّة ما - على الرغم من القول بأنّ شيوع نوع أدبيّ ما هو استجابة لحاجة مجتمعيّة - إذ ينمّ غياب القصّة على غياب روح النقد الفنيّ المباشر، وحضور التهيّب، وتراجع كلّ من الجرأة، والقدرة على تعرية فنيّة لزاوية منفردة من زوايا الحياة، التي تقوم بها القصّة القصيرة، في حين تُشظّيها الرواية ببنائها المخاتل، وبوحداتها السرديّة المتعدّدة، فالقصّة ظهرها مكشوف، ويمكن حصر احتمالات التفسير والتأويل فيها بطريقة أضيق ممّا يمكن أن يتمّ في الرواية، وفي الشعر أيضاً.
وعلى الرغم من الأهميّة كلّها التي تمتلكها القصة القصيرة، فقد سرقتنا الرواية، التي بشّر كثيرون بموتها... لقد سرقتنا الرواية حقّاً، لأنّنا أردنا أن نسرق الحياة!
