Culture Magazine Monday  24/09/2007 G Issue 217
فضاءات
الأثنين 12 ,رمضان 1428   العدد  217
 

نهاية الشعر وبداية الإنسان
محمد عبدالله الهويمل

 

 

من أعتى ما يواجه القريحة الناقدة هو تأويل طبيعة وملامح النقلة الإنسانية بشتى تفاعلاتها ومشخصاتها الثقافية من مرحلة إلى أخرى وأعتاها على الإطلاق ساعة تباشر هذه التويلات دخيلة التلقي الشفاف بكل تعقيداته لمظاهر الجمال ومفرداته التي هي مناط ومحدد وجودي يحتكر كيانيته وانجذاباته الصاخبة.

الفن بوصفه لحظة آخذة في تحرير ذاتها حتى من ذاتها كان ولا يزال يحرض أدواته على توسيع فتوحاتها ومشاغبة القلاع المكينة التي بقيت محتفظة بوقارها إلى حد الشلل متكورةً على أدبيات بدا لنا أخيراً أنها فارغة ولم تكن تبذل نفسها لاحتواء الفن بل للتشبث بالمؤسسة والشرعية لأنها الحاضن الوحيد للناقد والمثقف الحداثي والتقليدي أيضاً حتى دوّى التبشير بعام 1972 ونهوض النسق الجماعي الجديد (ما بعد الحداثة) حيث الإنسان يلتهم المؤسسة التي صنعها من التمر ويدك بنيتها التحتية ويتطاول على ثوابتها. ولعل أكثر زوايا المشهد الثقافي الإنساني حيوية في هذا الشأن هي زاوية انحسار الشعر لمصلحة الرواية أو لأجناس إبداعة أخرى. وهذا في تأملي تبسيط واختزال لحقيقة كبرى يأتي نهوض الرواية من قبيل الاستشهاد على أزمة وليس تأطير الأزمة فيها.

الرواية ظاهرة الإنسان وليست ظاهرة سرد إنساني، بمعنى أن نهوضها كان منطقياً وعلمياً ومتأخراً أيضاً تأخر هجرة الإنسان إلى المدينة وما ترتب عليها من انقلاب في البنية الشعورية انعكس على طبيعة علاقته بأشيائه. يقول مفكر ما بعد الحداثة رابان (المدينة هي دائماً مكان أكثر تعقيداً من أن يختصر بهذا الانتظام.. المدينة لابد أن يندمج فيها الواقع والخيال ببساطة)، (المدينة تدعوك باتجاه إعادة تشكيلها كي تستطيع العيش فيها ومثلها أنت. يكفي أن تقرر ما تريد أن تكون وستجد أن المدينة التي تريدها هي بجانبك. قدر ما شكل المدينة الذي تريده وستجد أن هويتك قد تماهت فيها وهي قياسها)، (العيش في المدينة هو فن).. فهل المدينة تحرض على السرد أم تحرض على الجمال وحسب. ومن المؤكد أن الإجابة يعوزها رصد توثيقي ثري للمتغير لا يخلو من رعاية فلسفية مفرطة تدمج الشعري بالفني ككل والأدبي بالإنساني. وتناول أحدهما بمعزل عن الآخر بات من مخلفات الحداثي البائد. ومن محاولات الرصد لهذه الظاهرة هو تتبع الخيار شبه الجماعي للأصوات الناقدة للظاهرة السبتمبرية وما خلفت من تداعيات والارتهان الكتابي إلى ما هو سردي بشتى تمظهراته والعزوف عن ما هو شعري في سبيل التفاعل مع هذا الحدث وهذا المتغير. فهل الإيقاع الحديث إيقاع سردي؟ إن الموسقة ليست قيداً فحسب بل هي من مكتسبات المؤسسة النمطية التي أذنت ثورة ما بعد الحداثة بزوالها وبزوال كل ما يمت بقوى تحدي الثقافة الرأسمالية الجديدة.

فهناك خلفية استهلاكية عززت موقف ما بعد الحداثة الانقلابي ضد موسقة الكلمة الشعرية، إذ هي مكلفة اقتصادياً وغير ربحية خارج السوق الغنائي الذي يوظف الكلمة كما يوظف الموسقة فكلاهما يتوحدان في سلعة تمنح المشهد الرأسمالي دينامكية باهظة. وهذا يستدعي القول بأن الكلمة المموسقة لا تعدو أن تكون وحدة طربية تنتظم في جوقة العمل الغنائي الاستهلاكي وحضورها يكون لإرضاء التقاليد الموروثة في حين أن الحدث الدرامي كظاهرة سردية هو المقوم الأهم للفعل السينمائي الاستهلاكي، فهو صانع الحدث والإثارة التي تدور حولها كل بانوراميات العمل، فبدون انتظام التاينك بالجبل الثلجي العملاق فلن تتحطم السفينة الجبارة على هذا النحو الأسطوري الذي ضخ مليارات الدولارات في سوق التنافس الرأسمالي الجديدة. والأمثلة لا تقع تحت حصر على أن السردي يتحرك بعنفوان داخل الاستثمار الذي لم يهمشه إبداعياً وأدبياً.

إن ملامح النقلة بات عارية، فتيارات جمالية تضرب البنى العليا للثقافة كانت نتاج تحول ثقافي تراكم ببطء وهي في نهاية الأمر ليست منجذبة فحسب إلا الفاعل الرأسمالي بل هو خيار إنساني تم اتخاذه بروية ودونما إملاء ذوقي كما هو شأن شهرة أم كلثوم والذي تواطأت عليه جملة من المفاعيل أخذت في تنميط الذوق ومأسسته حتى تحولت ظاهرة أم كلثوم، وأم كلثوم ذاتها إلى مؤسسة نهضت بها اعتبارات سيكولوجية الجماعة ووعي الجماهير التي كانت تقاد إلى حفلات أم كلثوم كما تقاد إلى مظاهرة احتجاجية، ولذا فأم كلثوم انحسرت إلى درجة الصفر ولم يبق منها إلا وقار المؤسسة في زمن التشظي الخلاق والانسحاب من لغة تنقاد إلى فكرة شعورية إلى لغة تستجيب لفاعلية الآلة حيث تكون المشاعر الجمالية حقل إدراك مكتمل الشروط.

إن أم كلثوم بوصفها حاضنة للنص الشعري المؤسسي كانت حلقة حيوية للاتصال المتنامي بين التجارة والقافية إلا أنها سقطت بسقوط المؤسسي تحت بلدوزرات ما بعد الحداثة حيث الفن المتجاوب مع سيناريو الفوضى يعلن صعود نجم جديد هو الإنسان.

من الشعرنة إلى التفلزة

يعرض د. عبدالله الغذامي في مشروعه للنقد الثقافي للشعرنة بوصفها آفة ثقافية حيث يتسلل الفاعل المضمر للشعر إلى منظومة الخلق ويتحكم في السلوك النفسي ويوجه الثقافة بل ويحدد مشخصاتها ومعاييرها. وهذا يؤكد على أن الشعر كان محتضناً في قلعة مؤسسية تفعل فعل الهيمنة المطلقة على خيارات النسق وليس الإنسان الخاضع في لا وعيه إلى هكذا توجيه ولكنه في مرحلة ما قبل نبذ المركزية والاحتفال بالمؤسسي الذي يأخذ تمظهرات تقليدية كلاسيكية وحداثية، فكلاهما يمارس دوراً ارستقراطياً أبوياً على علاقة الإنسان بفلكه حتى برزت التلفزة كتعاط سهل وانسيابي في هذه العلاقة حيث أسست لتنميط جديد وإعادة إنتاج للجمال بوصفه حالة وممارسة وأعلت من شأن انبعاث الممارسات الشعبية داخل الحداثة الصناعية.

وهذا أتاح فرصة فريدة للمستهلك التلفزيوني إلى إعادة إنتاج هذه العلاقة كان من شأنه أن يؤثر تأثيراً حاسماً على التلقي الإبداعي من حيث هو ثقافة ومن حيث هو استهلاك يأتي الشعر في هذا التحرير الجمالي المندفع ليعبر عن نفسه كظاهرة إنسانية تدخل في هذا الرقم الكبير الذي يهشم الحدود ما بين الخيال والخيال العلمي وليعزز من فرص ولادة قصيدة ما بعد الحداثة كثورة استهلاكية تتجاوز النص إلى الظاهرة فيبرز لنا برنامج (أمير الشعراء) مثلاً ليؤكد على أن النص بات مؤثراً في صياغة العلاقة ولم يعد طرفاً فيها كما هو الحال في السابق، فعلاقة الشاعر الجاهلي مع جمهوره علاقة متبادل من حيث التأثر والتأثير ثم قطعت الحداثة هذه العلاقة لتعود ما بعد الحداثة الاستهلاكية لتصيغها على نحو أكثر أحادية يهيمن فيه الجمهور على الشاعر الذي غزا مدرجات المسرح متوشحاً برايات تغلبية ومضرية، وتتجلى هذه الهيمنة أكثر من عواصف التصفيف التي تهب دون مبرر لا سيما عند هدوء المتنفس ما بين البيت والبيت وتنتهي المعادلة إلى.. جمهور + رايات + شاشة جذابة + شريط تصويت أعمى + تصفيق (ملأنا البحر حتى ضاق عنا) + إلقاء مدوي + لجنة تعلق على الموضوع ولا علاقة لها بالنص.. وبعد هذا الطابور الاستهلاكي أين يكون النص؟ إنه داخل في العلاقة الجمالية وليس طرفاً فيها كما أسلفت. من الذي أزاحه إلى هذه الخانة المتدنية؟.. إنه الإنسان الجديد.

إن هذا المؤشر ينضم إلى زحمة المؤشرات التي تُعطي نتيجة متطابقة لحقيقة أن الشعر كنص آيل للانحسار أمام الشعر كظاهرة، وهذا هو بداية الذوبان وفقدان الهوية إلى ظل الظواهر الجمالية التي هي إنسانية أولاً وأخيراً، والتطور الذي سيعتور النص لابد أن يتم بعيداً عن وصاية المركز الذي أبدع الشعرنة بكل عيوبها. إن المجتمع يهتدي إلى الشعر الذي هو يكتبه أو يشارك في كتابته بعد أن فرض الشاعر نفسه وصياً على اللغة والمعنى.. إنها ثورة الإنسان على الشعر ليصل إلى الجمال.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة