Culture Magazine Monday  24/09/2007 G Issue 217
فضاءات
الأثنين 12 ,رمضان 1428   العدد  217
 
وينساني الزمانو على سطح الجيران
أمل زاهد

 

 

يستدعي رمضان دائماً جزءاً عزيزاً من ذاكرتنا فيعيدنا إلى فرحة أول يوم صمنا فيه، ويبعث إلى النشور دهشة الطفولة البريئة.. يعيدنا إلى قطرات الماء العذب وهي تبلل ألسنتنا الجافة ونحن نشعر بحلاوة اندلاقها في جوفنا بعد صوم يوم خلناه دهراً.. يعيدنا إلى حلاوة الترقب ولهفة الانتظار، يبعث الجدة في روتين أيامنا ليظللنا شعور جميل بالمشاركة وإحساس رائع بالوحدة مع جميع المسلمين في أقاصي الدنيا وأطراف الأرض.

يأخذني دوماً رمضان إلى أعتاب مدينتي الرابضة على ضفاف القداسة، ويمضي بي حفيا إلى أحيائها القديمة المعطرة بأنفاس الحجاج وبعبير أمانيهم ودعواتهم.. إلى ذكرياتي ألملمها من على أطراف أزقتها وشوارعها ، وإلى آثار خطوات طفولتي اقتفي أثرها، لألتقط الحكاوي من جنبات (باب المجيدي).. ذلك الحي الذي تمنيت طويلاً أن ينساه الزمان ولا تغيبه عن الأعين غابات العمران، فأروح أتوسل ذاكرتي لتستدعي تفاصيله وملامحه، أستجدي الذاكرة لتتنقل كما فراشة رشيقة حفية بالحياة لترتشف من الذكريات عذب الرحيق.

أجد نفسي على غفلة مني متلبسة بالحنين ، وأجد رمضان يقودني محتفياً بذاكراتي ليستدعي لمحات من هناك، ولينتزع صوراً ملتصقة بحيطان الذاكرة.. وأراني طفلة ترتقي سلم أحلامها وترفع بصرها إلى السماء ترقب مع رفاق الطفولة من على أسطح المنازل ذلك الضوء الأحمر الصغير الذي يتلألأ كنجم ساطع فوق منارة الحرم النبوي.. ترنو أعيننا إلى تلك النقطة البعيدة، تلتصق نظراتنا بالمنارة القصية خوفاً من أن تفوتنا لحظة بداية النهاية.. يلمع الضوء الأحمر فتخفق معه قلوبنا الصغيرة التي طال انتظارها لبشائر ظهوره، فسوف ينطلق بعده مدفع الإفطار مدوياً صاعقاً مؤذناً بنهاية يوم الصيام ودخول ليل حافل بالسمر والسهر والزيارات.

لا نلبث بعد ذلك أن نستدير لنعطي الحرم ومناراته ظهورنا لنواجه جبل سلع الذي ينطلق المدفع من سفحه.. ننتشي بصوت انفجار البارود القوي وبرؤية كتلة الدخان الحمراء المشوبة بالسواد وهي تلتف على نفسها منطلقة من فوهة المدفع مكونة كرة ضخمة لا تلبث أن تتبعثر أشلاؤها في المدى. لم نكن أبداً لنفوت لحظات الانتظار تلك الحبلى بعناقيد الترقب والحصاد، كنا نسمع دقات قلوبنا وهي تقرع صدورنا تتطلع لقطف ثمرة يوم طويل من الصيام.. يوم أنهكناه لعباً وتقافزاً في أطراف الحي وأتعبنا هو بطول ساعاته وامتداد وقته.. ينسينا الانغماس في اللعب ألسنتنا المتدلية عطشاً وأمعائنا الصارخة جوعاً، ولا نكاد نشعر بهتاف الجوع والعطش إلا ولحظات الانتظار القليلة تلك تتمدد أمامنا كليل صلد بلا نهاية لا نصدق أبداً أن شمس المدفع ستبدد معها امتداد ثوانيها اللانهائي!

يعيدني رمضان إلى ساحات الحرم وحصاه، إلى القبة الخضراء وحمام الحرم يحلق بسلام فوقها يحط تارة هنا وتارة هناك.. يغري طفولتي بالتحليق معه فأشعر أنني أنا الأخرى حمامة تحلق فوق ساحات الحرم والأزقة والأسواق المتاخمة له.. أجد طفولتي اللاهية تحلق مع حمام الحرم بعيداً لتلقط صورة من هنا ومشهداً من هناك، ترسو عند طفل مثلي يتوق لإطلاق طاقاته المختزنة للهو واللعب، بعيداً عن الصلاة والخشوع المرفرف فوق رؤوس المصلين في صفوفهم المنتظمة.. ثم لا يلبث صوت الشيخ عبدالعزيز بن صالح أن يرد نزق طفولتي إلى رشده وإلى الأجواء الروحانية للصلاة، بنبرات صوته الخاشعة التي ترق وتصفو تارة وتتهدج وتكاد تخلع القلوب من الصدور وهي تردد آيات الوعيد والعذاب تارة أخرى، فأثوب إلى صواب اللحظة محاولة تمثل معاني الكلمات والتحليق إلى نقطة بعيدة في المدى، أشعر أنها تجمع قلوب المصلين وأرواحهم.. لكم ظنت براءة طفولتي أن صوت الشيخ عبدالعزيز قادم من الجنة محملاً بضوع قداستها فينتابني شعور بالرهبة والخشوع مبطن بأمان خفي لا أعرف كنهه ولا صفته.. تحتار طفولتي مرة أخرى فتفر من تلك المشاعر المبهمة، وأعود لألهو بمراقبة سجود المصلين في وقت واحد، فأرفع رأسي خلسة من السجود فتروعني عظمة مشهد الجباه الخاضعة والأجساد الساجدة رغبة ورهبة!!

لكل منا ذاكرته الرمضانية الخاصة به التي تستدعي أحداثاً بعينها وطقوس بتفاصيلها وروائح بخصوصيتها، وما أصدق تلك العبارة الشعبية التي يرددها الناس عادة قبيل رمضان: هفت علينا روايح رمضان!! قد يستدعي رمضان قرعات المسحراتي برناتها الموسيقية عند جيل، وقد يستحضر صوت زوزو نبيل العميق وهو ينطلق من فتحات الراديو، قائلا: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، أو صوت مدفع الإفطار والإمساك ونكهة الماء المختلط بعبق المستكة التي تبخر بها كؤوس الشرب في جيل آخر.. ويبقى لكل جيل ذاكرته الرمضانية بخصوصيتها المتفردة، ولكن لا بد أن نجعل من رمضان فرصة لإحياء طقوس شعبية اندثرت ومظاهر فرح كادت أن تتلاشى، ولا بد من أن نبعث الحياة في ذاكراتنا الشعبية لنربط الأجيال الجديدة الممسوحة القسمات بهويتها العريقة. أجيال تكاد تتقطع كل الوشائج التي تربطها بشخصيتها القومية، فهجمات العولمة لا تكاد تبقي شيئا ولا تذر! وهنا يأتي دور الإعلام والمؤسسات الثقافية في إحياء الذاكرة الشعبية وإعادة الطقوس الجميلة القديمة إلى المشهد الثقافي لنتلفع بحميمة تفاصيلها من غربة مصفحات الإسمنت.

لم تعد المدينة المنورة تشبه نفسها، وقد امتدت جحافل العمارات الشاهقة فمحت قسماتها المميزة ومحت معها جزءاً عزيزاً من ذاكرة نروح نتوسلها دوماً لتعيد لنا صوراً وتفاصيل تهفو نفوسنا لاسترجاعها واستعادتها! وبعدت الشقة بيننا وبين الحرم بعد أن انتقل أهالي المدينة إلى الأحياء البعيدة بعد أن تحولت الأحياء القديمة إلى منطقة تجارية، تغيرت أمور وتبدلت أخرى.. ويأتي رمضان ويذهب رمضان آخر ولا أزال أضبط نفسي متلبسة بالحنين لأعود طفلة ينساني الزمان على سطح الجيران!!

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- المدينة المنورة Amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة