Culture Magazine Monday  24/09/2007 G Issue 217
سرد
الأثنين 12 ,رمضان 1428   العدد  217
 
قصة قصيرة
مخاض
فاطمة العتيبي

 

 

- ماذا تريدين؟

- سأوقظ الشغالة..

- لا لا، دعيها.. ينتظرها غد متعب.. اقرئي الورد عليهم.. سيكونون في حفظ الله..

تحب حنانه.. هدوءه.. نظارته.. غترته.. التي يسدلها على جانبي وجهه حين يكون قلقاً.. مثلما هو الآن..

حمل حقيبة الولادة التي حفظ مكانها منذ شهر..

أمسكها بيده اليمنى وأحاط كتفيها بيده اليسرى..

- قولي: بسم الله، كرّرها كثيراً وهي تنزل الدرج وتركب السيارة وأنينها يعلو تباعاً.. تبتلع نصف ضراوته في جوفها من أجل قلبه الرقيق.

قال لها بعد ولادة ابنهما الثاني: (..خ.. لا.. ص.. بطلنا.. لو تدرين كيف كان البيت من غيرك..).

الألم يشتعل في جانبيها وأسفل ظهرها..

- ما عليك.. وصلنا.. كلها دقائ.. ما هذا؟ الطريق (مسكر).. ماذا يحدث؟ كل الجهات.. مغلقة.. أنزل النافذة.. قال: حالة ولادة.. لا بدَّ أن نمر..

- أبداً لا يمكن، اخرج حالاً.. انجُ بأهلك.. هنا مسرح عمليات.. ارجع.. اخلص يا ولد.. صرف نفسك بعيداً عن هنا.. خطر.. قالها وهو يمضي..

تتداخل عبارات الضابط الحازمة والمشوبة بخوف.. خوف غريب لا يدري.. لا يدري لماذا ارتبك له..

- لنعد.. لنعد.. إلى أبنائنا.. سأكون بخير..

- ماذا؟ نعود؟ والولادة..؟ سنذهب من خلف الأحياء.. الطريق أطول لكنه آمن.. لا تخافي كل شيء سيكون جيداً.. حاول إخفاء ارتباكه..

تعرفه إذا زاد قلقه يكرِّر تثبيت النظارة على أنفه كثيراً.. اختلط كل شيء أمامها الآن.. حبها له وللطفلين والألم الضاجّ بضراوة في أسفل ظهرها.. ووجوه رجال الأمن المتحفزين..

علا أنينها.. وتعالت صرخاتها.. يا رب يا رب.. تنظر إليه وهو يضرب بيده المقود فتمد يدها باتجاهه.. ضغطت بقوة على يده المتعبة وعلا صراخها.. يا رب..

عند باب طوارئ المستشفى هرع راكضاً.. كان الزحام شديداً.. ورائحة الدم الساخن تملأ المكان والكل مذهول ويركض..

أراد أن يستوقف أحداً.. يطلب كرسياً.. سريراً.. لكن لا أحد يتوقف.. الجرحى يتوافدون والأنين يعلو.. والدم المبعثر في الممرات يدفعه إلى الصراخ.. وسط الراكضين..

- زوجتي تلد.. تلد.. إنها تموت الآن.. لا تدعوها تموت.. إنها تلد..

انهار باكياً والجرحى على النقالات يعبرونه.. ويتركون دماءهم ساخنة على أرضيات الممرات..

يتجه نحوها.. وصراخ يعلو في الداخل.. شهيد شهيد بإذن الله.. لأول مرة لا يرد على أسئلتها.. يساعدها مع الممرضة على الجلوس على الكرسي المتحرك.. تعبر الممر يعلو صراخها.. ويذهلها الألم وتترك مثل العابرين بعض الدماء على أرضية الممر..

تهدأ زوجته وتصرخ ابنته سريعاً صرخة الحياة خلف ستارة أول سرير في الإسعاف..

ويعلو أنين جريح جديد قادم للتوّ.. يتفرَّسه جيداً.. إنه هو.. الضابط الحازم الحاني الذي قال له قبل دقائق: انجُ بنفسك وأهلك.. وعدْ عن هذا الطريق..

اقترب منه أكثر كان يريد أن يسمع آخر الكلمات التي ممكن أن يتفوه بها شهيد..

سمعه من بين النزف والأنين يقول: (شنطة فلة).. إنها في سيارتي.. دعوا حياة تفرح بها قبل أن تبكي.. قبل أن تعلم أنهم حرموها مني إلى الأبد.. قولوا لها.. إنه يغادر لتعيش هي.. يكفيه أن يترك لها وطناً بلا أفاعٍ أو جحور.. دعوها تفرح الفرح الأخير.. وتعرف أنني لا أنسى طلباتها إلى آخر لحظة.. دعوها تفرح.. ثم غاب عنه في لجة الألم.. وسريره يندفع سريعاً نحو العناية المركزة..

وفي المساء ظهرت صورة الضابط أمامه.. في نشرة الأخبار.. يبتسم للكاميرا مع طفلته التي لن يحملها مرة أخرى.. لن يراها حين تحمل شنطة فلة قبل أن تبكي.. لن يراها وهي في طريقها الآمن نحو مدرستها.. لن يراها.. وهي تضرب له سلاماً حين يعود وتغنِّي له نشيد الوطن الذي حفظته لتوِّها.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة