Al Jazirah Magazine Tuesday  13/03/2007 G Issue 210
الفن السابع
الثلاثاء 23 ,صفر 1428   العدد  210
 

تحليل بوليسي لفيلم بوليسي..نظرة جديدة متأنيّة على الفيلم الرابح للأوسكار:
فيلم (المُغادر) أو مارتن سكورسيزي (لايت)!

 

 

* إعداد - محمد رضا

إذاً، نالها مارتن سكورسيزي وحصد الأوسكار الذي تمنّاه طويلاً ورُشّح من أجله مراراً وتكراراً ليخرج سابقاً خالي الوفاض في كل مرة.

هذه المرّة، كان فيلمه السائد وهوليوود لم تكن تتصوّر أنها تستطيع إغفال هذا المخرج النيويوركي أكثر مما فعلت.

لكن هل فيلمه هذا جيّد فعلاً؟ هل هو كله حسنات فقط؟ وماذا يمكن أن تفيد قراءة متأنيّة للفيلم قبل أن يلفه غبار النسيان وطول الأزمان؟ فيلم (المُغادر) هو أكثر أفلام مارتن سكورسيزي تمنّعاً.

بل وأكثرها استعصاء على الإيجاز في جمل مبتسرة، أو في تعريف كامل ووافٍ في فقرة.

ليس لأنه عميق وصعب وبرغماني أو سوريالي، بل لأنه إذ يختلف عن أفلام سكورسيزي السابقة في أوجه، يلتقي معها في أوجه أخرى، وإذ يغوص في لون أكثر قبولاً من مشاهدي السائد، يبقى سكورسيزي إلى درجة كبيرة.

هو أيضاً شائك لأن المرء يستطيع سريعاً أن يحكم على أنه ليس فيلماً ذاتياً، بل حقيقة أنه مقتبس من فيلم هونغ -كونغي (وهو فيلم علاقات جهنّمية للمخرج آندرو لو وسيو فاي ماك، من إنتاج عام 2002) يرشّحه لأ لاينتمي إلى سينما سكورسيزي أصلاً.

لكن في مواجهة هذا الرأي المجحف، هناك حقيقة أن معالجة سكورسيزي لفيلم العصابات الصيني ليست ذاتها معالجة غس ان سانت لفيلم (سايكو) حين نقله، لقطة بلقطة عن المعلّم ألفرد هيتشكوك فبرهن على شيئين: لا أحد يستطيع أن يحاذي هيتشكوك حتى ولو استنسخ لقطاته ولا جدوى من المحاولة أساساً حتى ولو كتب لها النجاح.

سكورسيزي لا يتوقّف عند نقل القصّة الى بوسطن ولا يكتفي بأمركته على نحو كامل بل يجلب إليه عالم من الشخصيات الشرسة في بيئة من الجريمة السائدة.

ما يضيفه إليه هو أنه في حين أن أفلام العصابات التي أخرجها سابقاً (أقرأ الفيلموغرافيا) كانت تستثني رجال القانون.

الحال هنا هو أن الصراع بين القانون والخارجين عنه هو الصراع المنقول عن الفيلم - الأصل ولو أن سكورسيزي يمنحه هنا البعد الأمريكي للعملية بأسرها.

القانون يصارع نفسه

في ثنايا هذا الصراع، يتبدّى أن القانون يصارع القانون في سعيه للبقاء قُدماً والبقاء على سدّة المجتمع.

في (المُغادر) يعمل بيلي (ليوناردو ديكابرو) عميلاً للحكومة في عصابة فرانك كوستيللو (جاك نيكولسون) لكن فرانك لديه عميل (على الأقل) في البوليس اسمه كولِن (مات دامون) رعاه ودرّبه منذ صغره للغاية.

كولِن أكثر نجاحاً في استغلال الشروخ التي في جهاز البوليس لمصلحته ولمصلحة فرانك (كلا المصلحتان تختلفان أحياناً) من نجاح بيلي في عمله مخبراً أولاً لأنه ليست هناك شروخ تُذكر في عصابة فرانك الممسوكة جيّداً، وثانياً، لأن إدارته، متمثّلة بالكابتن أولي (مارتن شين) والسيرجنت ديغنام (مارك وولبرغ) مضطرّة للتكتّم حول عميلها هذا حتى تجاه الأقسام الأخرى في البوليس بسبب علمها بوجود (جرذ) فيها يعمل لصالح فرانك. هذا التكتّم يُعيق حركة بيلي ويجعله مكشوفاً عند أول خطأ قد يقع فيه.

وكما في فيلم رتشارد لينكلتر الأنيماشن (سكرينر داركلي) ومن قبله فيلم داوود عبد السيد (أرض الخوف)، بيلي تحر تمت تعريته من هويّته الحاضرة ورميه إلى القاع حيث لايستطيع العودة إلى ما كان عليه إلا بإذن صعب الحصول عليه ونحن نرى أن أول ما يخطر لبيلي بعد مقتل أولي وفرانك، هو الطلب من إدارة البوليس إعادة (إحيائه) رسمياً، وأول ما يقدم عليه كولِن، والأمر بات بيده، هو إبادة بيلي بمحوه عن الكومبيوتر.

الجهة الشريرة تفتك ببعضها

يخفق القانون في النيل من فرانك، إذ يقتله كولِن، ويخفق في معرفة من هو عميل فرانك في البوليس فنجد أن رئيسه المباشر إلربي (ألِك بولدوِن) يثق به تماماً. المواجهات تنتهي دوماً لصالح الجهة الشريرة قبل أن تبدأ بالفتك ببعضها البعض. والطريقة الوحيدة التي يُتاح فيها للقانون التخلّص من الشر المتمثّل بكولِن (الوحيد الباقي بعدما تم قتل رئيسه وأتباع رئيسه وشريكه العميل الآخر الذي لم يدر الفيلم حوله) هو قيام السيرجنت ديغنام بقتله منفّذاً العدالة التي لم تستطع العدالة تنفيذها.

وفعلته هذه تمّت من بعد أن تم إيقافه عن العمل ما يجعل قيامه بقتل كولِن جناية.

هل فيلم (المُغادر) إذاً عن إخفاق القانون في هذا الصراع؟ بالطبع. هل يفسّر ذلك السبب الذي من أجله أدمن سكورسيزي استبعاد رجال القانون من أفلامه العصاباتية السابقة وذلك من باب التأكيد على إخفاقه في المواجهة؟ بكل تأكيد.

نوع المهنة

يبدأ الفيلم بتعليق صوتي لفرانك يقدّم فيها الفلسفة التي بنى عليها حياته: (مأخذي على السود إنهم لا يعرفون بعد أن عليك أن تقبض على ما تريد. لن يمنحك إياه أحد). بعد قليل يوفر مفهوماً آخر لصبي هو ابن رجل البوليس الأيرلندي المعروف في الحي، فينبّهه إلى أن (كثيرين يعتقدون أن هناك فرقاً بين أن تقف لجانب القانون أو ضده). ثم يسأله: (لكن أمام فوهة المسدس هل هناك فرق؟).

خمس دقائق وتنتقل الأحداث إلى الزمن المعاصر، الصبي بات كولِن وفرانك أصبح أكثر شراسة مما كان عليه في السابق. الفيلم سجال حافل وترفيه شيّق لمعظم الوقت. ومع تعقّد الأحداث تصل شحنات الفيلم التشويقية إلى أقصاها. فرانك على أهبّة القيام بصفقة كبيرة مع الصينيين يمنحهم فيها أسراراً صناعية على أقراص ولاحقاً على أبواب صفقة أخرى يقبض فيها شحنة كبيرة من المخدّرات.

هنا تبدأ الشكوك تتسلل إلى المشاهد عن جملة من الاختيارات التي وصفها الكاتب ويليام موناهان ونفّذها المخرج سكورسِزي. في المُشاهد الأولى حين يخطب فرانك في صبي ليصنع منه مجرماً،.

ربما كان لا يزال آنذاك في بداية عهده في الجريمة. لكن المَشاهد التي تدور حول عملياته التهريبية تجعلك تتساءل عما إذا كان فرانك تاجر مخدّرات، كما يقول الفيلم، أو بائع أسرار حكومية (الحكومة الأمريكية أيام بيل كلينتون قررت بيع الصين أسراراً صناعية على أية حال) كما يكشف ذلك المشهد. وهل هناك من يجيد العمل في المخدرات والعالم السفلي للسياسة على هذا النحو؟ ثم هل تتم صفقات بيع الأسرار الصناعية والتكنولوجية في المباني المهجورة لمخازن المرافيء فعلاً؟ وهل نقبل أن لفرانك علاقات قويّة مع الفساد السياسي لمجرّد أن الفيلم يقول ذلك على لسانه؟

القسم الثالث

الغالب أن سكورسِزي أراد إبقاء الفيلم بأسره في مطارح وضيعة تعكس البيئة المنحطة التي اعتاد تصويرها في أفلامه الأولى. سوف لن تر مشهداً يكشف جمالاً. لا الشوارع، ولا المدينة ولا حتى مكاتب البوليس الضيّقة والغاصّة دائماً. شقّة كولِن قد تكون رحبة لكنها غير جميلة وتطل على منظر قبّة. وسرعان ما يمتلأ كل مكان داخلي بعفونة الرجال الذين يحتلّونه. وهذا تبرير صائب للغة بصرية، وفي تصريح لمجلة سايت أند ساوند قال مارتن سكورسِزي إن هذا الفيلم يأتي من غضب قوي على الأوضاع القائمة، وهذا معبّر عنه بالتكوين الخاص للقطات الداخلية. عدسة مدير التصوير مايكل بولهاوس تجرّد الحياة من أي لمعان والألوان كلّها صناعية الشكل في المكاتب داكنة الأثر في الحانات وجرداء في الشوارع. وفي العموم باردة. بعد تحديد المواقع والمضي في تشكيل صراع خانق بين تحريين يسعى كل منهما لمعرفة هويّة الآخر (بيلي يبحث عن كولِن وهذا يبحث عنه) يجذبنا فيلم المُغادر أكثر فأكثر إلى القسم الثالث من حكايته. ذلك القسم الذي على الأمور أن تُحل وتتكشّف وتتبلور على نحو أو آخر. القسم الذي يتوالى فيه سقوط الشخصيات في كل مواجهة وعلى نحو يقترب - فجأة - من الكوميديا السوداء. إنه اقتراب غير مريح لأن الفيلم لا يبدأ على هذا المنوال، وبالتالي لا يجب أن ينتهي كذلك من دون أن تكون النقلة مخططا لها ومحسوبة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة