Friday 18/10/2013 Issue 14995 الجمعة 13 ذو الحجة 1434 العدد
18-10-2013

من ذكريات رحلة حج إلى مكة المكرمة في سنة 1371هـ

ذهبت إلى مكة المكرمة عبر رحلة برية شاقة عبر الفيافي والمهامة والمفاوز والرمال وكان الطريق صعباً، حيث لا طرق معبدة ولا استراحات على الطريق وما زالت تلك الأمكنة نقاطاً حية في الذاكرة، وكانت المدة عشرة أيام ومررت بمعالم وصوى لم يعد الطريق يمر بها، إنها مسيرة من الصعوبات والمعاناة.

وفي صيف ملتهب وبعد رحلة في أحشاء الصحراء ومكابدة طرقها ووعورة السفر وعناء الترحال من مكان إلى مكان حيث انطلقنا من المجمعة مروراً بالوشم والسر والدوادمي والمويه وركبة وعشيرة، وكنت أقول لرفاق الرحلة جزاؤكم عند الله موفور وسعيكم لديه مشكور، ووصلنا مكة بعد سفر عشرة أيام وزالت حرارة الطبية أمام حرارة الإيمان وشعرت بالبهجة وأنا أدخل مكة المكرمة مهبط الوحي ورأيت المسجد الحرام بقبابه ومآذنه وشاهدت الكعبة رأي العين البقعة المطهرة أول بيت وضع للناس وكم أحسست بشعور عميق من السكنة ورأيت أفواجاً من الناس يأتون من كل فج عميق يدعون الله بقلوب ملؤها الرجاء.

وبعد أداء مناسك العمرة ذهبت للتجول في أنحاء مكة المكرمة وفي كل بقعة من بقاعها أثر وتاريخ حيث غار حراء مهبط الوحي ودار الأرقم وغار ثور وغيرها من الأماكن التي درج على ترابها هداة البشرية ورموز البطولة والإيمان وستظل مكة المكرمة مناراً للأمة فقد انبثق منها النور ونزل من سمائها الفرقان لقد تتابع الوحي فيها ثلاث عشرة سنة وولد فيها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في بيت من بيوتها وكنت أقول ما أسعدني اليوم في مكة التي ظلت مقصد المؤمنين في حجهم من عهد إبراهيم يقصدها الحجاج فيرونها وادياً بين سلاسل جبال متصل بعضها ببعض ولقد رأيت سفوح هذه الجبال فقد عمرت بالمساكن كل هذه الذكريات تملأ النفس فخراً واعتزازاً، وكانت أرضية المسعى مرصوفة بالحجر، وكانت الدكاكين تأخذ مكانها على الجانبين في المسعى، كما أن السيارات تسير فيه، وكان أهم سوق في مكة سوق سويقة حيث تباع فيه الملابس والعطور وكذلك سوق الليل والجودرية وأكثر الشوارع والدكاكين تضاء بالأتاريك، ويوجد في مكة من دور العلم -المعهد العلمي السعودي- ومدرسة تحضر الفعثات وكلية الشريعة وبعض المكتبات.

لقد كان الجو لا حر ولا برد، ولهذا لم تدع الحاجة إلى نصب الشراع سواء في منى أو عرفات، وما كان الحجاج في ذلك الوقت وفي ذلك العام كثيرين، ولهذا فلا ازدحام في الطواف ولا مضايقة حول بئر زمزم ولم يكن الانصراف من عرفات أو منى شاقاً كما هو اليوم ولقد كتب الكثير من علماء والمؤرخين رحلاتهم.

وإن الحديث عن الحرمين الشريفين في عيون المبدعين والمثقفين كافة لا يضاهيه أي حديث لأنه ميدان شريف ثر العطاء.. وكيف لا يكون كذلك وأفئدة الناس تهوي إليهما من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، فهو موضوع يتسم بالسعة وثراء المادة والشمول، يحتاج إلى دراسات عديدة تبرزه في صورة أكثر وضوحاً.

فما من أديب أو رحالة أو شاعر ومبدع إلا هو مشتاق إلى رؤية هذه البقاع، يسلط الضوء على جانب من تلك الجوانب الروحية والحضارية، ولذا نجد كماً زاخراً بالأعمال الثقافية والأدبية من عرب وعجم كل راصد لرحلته وشوقه لهذه البقاع من حجاج وعمار وزوار يسألون الله من فضله.. ولكل وافد إلى هذه الديار خلفيته الثقافية التي ينطلق منها في الحديث عنها ويصف المشاهد وطرق الحج والمشاعر والعادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا من خلال أدب الرحلة وتصوير رؤيته لهذه البقاع الطاهرة.

والقارئ لآثار الرحّالة والأدباء والشعراء والمبدعين يجد فيضاً نفيساً زاخراً يبرز الحرمين الشريفين ومكة المكرمة والمدينة المنورة بما يثير كوامن النفس، وذلك مؤشر لعظمة المكان وروحانيته وعبقريته.

إن مكة المكرمة والمدينة المنورة تحتل في ذاكرة المبدعين أوسع المساحات.. وكيف لا تكون وهي منطلق الإسلام ومهبط الوحي ومهوى أفئدة المسلمين وزاخرة بأحداث غيرت وجه التاريخ، وستظل مادة حية للحديث والإبداع والنور، ولآثارها وربوعها على اختلافها حضور في الأدب والتاريخ قديماً وحديثاً، وكل من يستعرض التاريخ يدرك ويحس بدورها في الشعر والأدب.. يقول أحد الشعراء من أبناء مكة حسين عرب:

والمحاريب والمشاعر كون

ناطق بالتقى وبالإيمان

وستظل أفئدة الناس تهوي إلى الحرمين الشريفين، وستظل رؤية الأدباء والرحّالة والمبدعين لتلك البقاع الطاهرة تحتل المكانة الراقية في منارة المعارف الإلهية والرسالة الخالدة.

عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية

 
مقالات أخرى للكاتب