Saturday 19/10/2013 Issue 14996 السبت 14 ذو الحجة 1434 العدد
19-10-2013

ما وراء دعوى إفلاس أمريكا

أشرت في المقال السابق إلى أنّ النظريات الاقتصادية المتعلّقة بالائتمان والإفلاس الدولي، لا تنطبق تماماً على أمريكا مع وضعها الحالي في الاحتكارية العالمية المهيمنة على عملة الاحتياط والملاذات الآمنة. وأتيت بشواهد حديثة تثبت هذا. كنقض أمريكا من طرف واحد لمعاهدة ربط الدولار بالذهب عام 1971، وعدم تأثر مكانة الدولار بذلك. وكذلك مثلت بالأثر العكسي الذي حصل على السندات الحكومية الأمريكية، عندما خُفض تصنيف ائتمانيتها. حيث زاد الطلب العالمي على السندات وارتفعت أسعارها فانخفضت الفوائد، بدلاً من العكس. وذكرت أني أعتقد، أنّ الإفلاس الأمريكي الاختياري إن حصل، فلن يؤثر سلبياً على السندات والدولار لعدم وجود البديل بدليل الشواهد السابقة. واليوم أغطي جوانب أخرى معتمدة لها اتصال بالمقال السابق.

إنّ هناك فرقاً جوهرياً بين حالة الإفلاس، وبين حالتيْ فك الارتباط بالذهب وتخفيض التصنيف الائتماني. ففي حالة فك الارتباط بالذهب، كان هناك نظرية اقتصادية بديلة لوضع النقد والعملات دون ارتباط لها بالذهب. وفي حالة تخفيض التصنيف الائتماني، فقد كان هناك حالة سابقة مرت بها اليابان ولم تؤثر في الإقبال على سنداتها. كما إن التصنيف الائتماني لا يزيد عن كونه قواعد نظرية عامة، لا يستلزم منها حدوث نتائجها حتماً. وهذه فروق جوهرية تفرق هذه الشواهد عن حالة الإفلاس. فالفرق بين الإفلاس وبين شاهد فك الارتباط بالذهب، أنه في حالة الإفلاس لا يوجد هناك نظرية بديلة واضحة تحكي عمل النظام النقدي العالمي دون عملة احتياط دولية موثوق بها. والفرق بين الإفلاس وشاهد التصنيف، أنّ الإفلاس واقع حصل وملموس، بينما التصنيف مجرّد مؤشر لا يلزم تحقيقه واقعياً. والذي أعتقد أنه يحتاج إلى تأمُّل، هو الدعوى من وطنيين أمريكيين تشريعيين يدعون إلى إفلاس اختياري، وجعله أمراً واقعاً من أجل خلافات على سياسات إنفاق محلية. ولمن يدرك الاقتصاد يعلم أنّ هذا وضع لا يمكن أن يُنظر إليه بهذه البساطة، ما لم يكن هؤلاء السياسيون مدعومين بفكر أيدلوجي واقتصادي جديد ومخالف للمألوف لم يجد دعماً ممن بيدهم القرار فوجد عندهم تأييداً له من خلال التنازع السياسي الديمقراطي.

كنتُ قد كتبت عدّة مقالات في عام 2011 عندما ظهر أول جدل في تاريخ أمريكا الحديث حول رفض رفع سقف الميزانية والتلويح بالسماح بإفلاس أمريكا. وذكرت فيها أنّ الموضوع ليس بهذه البساطة التي تفسر بأنه مجرّد خلاف سياسي، بل قد يكون اختباراً لنظام اقتصادي جديد. ثم أتبع ذلك تخفيض ائتمان الدين الحكومي الأمريكي، ولذا كتبت مؤكداً بأنّ موضوع الإفلاس ليس نزاعاً سياسياً ديمقراطياً كما هو ظاهر فقط، بل سيكون له مراحل مستقبلية متطورة سيتضح فيها المقصود منه.

واليوم، -وعلى خلاف عام 2011 -، وقد أصبحت الدعوة إلى الإفلاس صريحة وجريئة مع بدايات ملامح تغيُّر الاستراتيجية الأمريكية في السياسة الخارجية واتجاهها للابتعاد عن الهيمنة الإمبراطورية والنأي عن النزاعات، فإنّ هذا قد يكون مؤشراً على أنّ هناك من يرى أيضاً وجوب تغيير الاستراتيجية الأمريكية الاقتصادية على المستوى العالمي. فقد حرصت أمريكا في الستينات والسبعينات على تثبيت الدولار كعملة احتياط بديلة عن الذهب. ( وقد شرحت هذا في عدة مقالات قديماً). وقد خدمها هيمنة الدولار كثيراً في توفير السيولة النقدية العالمية بكلفة منخفضة، استطاعت بها أن تنهض باقتصادها وتساعد أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، وما بعد ذلك. وقد نبّه قرين سبان - رئيس الاحتياطي الفدرالي سابقاً - إلى خطورة تخدير الشعب الأمريكي بالتمويلات الرخيصة بطبع الدولارات. وتحدث بأنّ هذا سيقتل الإبداعية الأمريكية ويخلق الكسل الإنتاجي على المدى الطويل. ( ومُلخص طرحه ما أستطيع تشبيهه بالخوف من المرض الهولندي - مرض البترول - أن يلحق بأمريكا على صورة دولارات رخيصة). وقد كانت هذه حججه في معاكسة سياساته النقدية لسياسات بوش الأب والابن المالية قبل حادث سبتمبر، حيث انقلب رأساً على عقب وخلق - بسياساته النقدية وتصريحاته -، صناعة الأدوات المالية التي استطاعت تحقيق نمو اقتصادي أمريكي رائع لسبع سنوات من دون إنتاج حقيقي إبداعي جديد. هذه الصناعة المالية في الواقع، خدّرت الإبداعية الأمريكية في جانب الإنتاج الحقيقي التي قادت العالم الحديث، ووجهته نحو الإبداعية في صناعة رقمية غير حقيقية.

الفوز بعرش عملة الاحتياط هو فكر قديم تحلم به الإمبراطوريات لما فيه من هيبة وتمويل رخيص للإمبراطوريات، وخاصة بعد الانفصال عن الذهب. وقد درست اليابان في السبعينات مقترحات الدفع بعملتها لتبوء عملة الاحتياط في شرق آسيا، ولكنها عدلت عن ذلك وارتأت التركيز على الإنتاج الحقيقي. وهذا الاتجاه في الابتعاد عن هيمنة العملة دولياً يبدو واضحاً أنه اتجاه الصين أيضاً، التي لا تبذل أيّ جهد للسير في هذا الطريق بل على عكسه وذلك بربط عملتها بالدولار. والتجربة الأوربية في اليورو التي كانت طامحة لمزاحمة الدولار في هيمنته لم تنجح، وفتحت النقاشات اليوم من جدواها أصلاً بعد أن عانت منها دولها كثيراً.

ولضيق المقام فسأكتفي بهذا التقديم المختزل، وأختم بما أعتقده. لا استبعد أن تكون هناك أحاديث مجالس خلف الأبواب بين النُّخب الأمريكية حول وجوب تخلِّي أمريكا عن قيادتها الاقتصادية العالمية التي مكّنتها من هذه التمويلات العالمية الرخيصة، فخدرت الشعب الأمريكي عن نضاله الإبداعي والاقتصادي في الخمسينات والستينات والسبعينات، والذي تتوّجت نتائجه في الثمانينات والتسعينات ثم خبا بعد ذلك بالتوجُّه للصناعات المالية. فالاقتصاد الحقيقي القوي يبنيه الإنتاج الحقيقي. وأما الإنتاج النقدي والمالي، فهو وسيلة لا غاية، وقد أصبح غاية أمريكية مؤخراً. ولعلّ أحاديث المجالس للنُّخب الأمريكية من وراء الأبواب تطرّقت للشواهد السابقة التي ذكرتها، واستعانت بها على تخفيف حدّة الممانعة من فكرة الإفلاس، عند السياسيين التشريعيين الجمهوريين المتطرفين والكارهين للرئيس الأسود. فلعلّهم بهذه الشواهد وغيرها اقتنعوا بأنّ الإفلاس لن يكون له أثر سريع ومباشر، بل هو وسيلة لتوجيه السوق العالمية تدريجياً لتبنِّي نظام جديد يخلقه ديناميكية السوق الطبيعية. وأيّ نظام سيخلقه السوق سيكون لأمريكا الحظ والنصيب الأفضل، بحكم عمق اقتصادها وحجمه، إذا ما عادت للإبداعية والإنتاجية الحقيقية. وهذه الإبداعية الحقيقية لا تتحقق بهذا التدليل المالي الذي صار إليه الأمريكيون، وكان من أهم أسبابه هيمنة الدولار.

قد يكون طرحي هذا بعيداً عن الواقع أو قريباً أو صحيحاً، ولكن على أي حال فإنّ المؤكد أنّ التلويح من وطنيين أمريكيين بإفلاس بلادهم والافتخار بهذا، لا يكون إلاّ وله مرتكزات ايدلوجية واقتصادية لها حظ كبير من النظر.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

 
مقالات أخرى للكاتب