Saturday 07/12/2013 Issue 15045 السبت 03 صفر 1435 العدد
07-12-2013

صورة الآخر وأثرها في نجاح الحوار

بمشاركة خمسمائة من القيادات الدينية والخبراء وأصحاب القرار العاملين في المجالات التربوية والثقافة من تسعين دولة عربية وأجنبية، حضرت مؤخرا أعمال المؤتمر العالمي لحوار الأديان‏، الذي نظمه مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين أتباع الأديان والثقافات ‏(‏كاسيد‏)‏ في فيينا بالنمسا تحت عنوان‏:‏ دور التعليم في إثراء ثقافة الحوار بين أتباع الأديان والثقافات.. وناقش المؤتمر صورة الآخر

وأثرها في نجاح الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ودور المنظمات الدولية في علاج أوجه القصور والتشويه في صورة الآخر بين أتباع الأديان والثقافات، وأفضل الممارسات والتطبيقات في السياسات التعليمية، بالإضافة إلى صورة الآخر ضمن سياق النظرة التاريخية، وسبل الاستفادة من التقنيات الحديثة في تقديم صورة موضوعية صادقة عن الآخر لدي أتباع الأديان والثقافات كافة، ونشر السلام والتسامح والتعايش بين الأديان وظاهرة التعصب التي تصاعدت وتيرتها في الإعلام الغربي في الفترة الأخيرة وكيفية تقديم الصورة الحقيقية السمحة والمعتدلة للإسلام في المجتمع الأوروبي.

وتحت سلطان المبدأ العقلي المتزن، نجح الأمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن معمر من خلال هذا اللقاء إلى إزالة الغبش الفكري الذي يتراكم اليوم على بعض الحقائق الجلية، تحت تأثير نظريات جاحفة وأحقاد شخصية، وهذا من شأنه أن يمد جسور الفهم المشترك ويقوي من الوشائج في سبيل بناء الأسرة الإنسانية الواحدة. فالبداية هي الحوار، مع التأكيد أن الحوار ليس غاية لذاته، بل هو وسيلة حكيمة من أجل غاية عظيمة وجليلة ألا هي “التعارف”. والتعارف يوم يقوم بين الناس ينشئ مدخلاً كريمًا وتربة خصبة ومناخًا حيويًا لغرس بذور غاية أعظم وأجل ألا وهي “التفاهم”.

والتفاهم يوم تتأصل شجرته في النفوس وتشمخ فروعها في آفاق الحياة وتأنس الأرواح في ظلالها الوارفة يومئذ تبدأ المجتمعات جني الثمرات، وإذاك تكون قادرة على بلورة قيم ومبادئ وأخلاقيات ووسائل وضوابط ميثاق بشري راسخ يكون منطلقًا صلبًا، وسبيلاً آمنًا لمسيرة بشرية راشدة.

فالعالم الإسلامي محاط اليوم بشتى أنواع الإكراهات في علاقته بالغرب؛ والإسلام الذي هو أصل عقيدته وقوام هويته متهم في الأذهان الغربية بكونه دين الغلو والتطرف والإقصاء بل وحتى الثقافة العربية - الإسلامية متهمة على كونها تميل إلى التقليد المحبط وتغذي خصوصياتها الحضارة العربية والإسلامية، وهي المرجع الرئيس حسب زعمهم لحركات الإرهاب في العالم.

وهنا لابد من الإشادة بالكثير من المنصفين من علماء الغرب في حق الإسلام والمسلمين، وتزخر المجلدات التسع حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي التي نشرها المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية منذ مدة ببعض من كتاباتهم القيمة، فتجد الأب بيير ميشل لولون وهو في صدد الرد على محاضرة البابا التي ألقاها في جامعة راتسبون سنة 2006.. “فرجل كالبابا بونوا 16، الذي أكن له تقديراً كبيراً، يبدو أنه نسي يوما هذا المطلب، أي من أجل أن ننشئ علاقات عادلة وهادئة بين المسيحيين والمسلمين يجب على المسيحيين أن يتكلموا عن الإسلام بشكل يجعل المسلمين يتعرفون على أنفسهم في ما يقال”.. كما نقرأ في صفحات هذه المجموعة من الكتب، المقالة القيمة لفرنسوا برجات “إن الإصرار الممنوح للسجل الثقافي يساهم كآلية تحجب المسببات للتوترات، وبالتالي فإنها تؤيد في الغالب توزيعاً أحادياً للمسؤوليات، “أمراض” ثقافة الآخر التي تكفي لتفسير صعوبات تعايشنا معه”، وهو يشير بذلك إلى المشكل الفلسطيني الإسرائيلي حيث إن الدولة العبرية تشير بأصابع الاتهام إلى الثقافة العربية والإسلامية كعامل محدد في تفسير سياسات التنكيل والقتل في حق الشعب الفلسطيني ومن ثم طول الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

إن هذا النوع من التحليل الأكاديمي الصادق المتحري للحقيقية والإنصاف هو الذي بإمكانه أن يخلق طرقاً مثالية للتعارف والحوار البناء، إنه لا يقف في حدود السطحيات ولا يبنى على تفاهات تتقاولها وسائل الإعلام أو يروجها أناس لهم حقد دفين ضد الآخر الذي له دين مختلف وخصوصيات ثقافية مغايرة، إنه المستوى اللائق بذوي العقول الحصيفة التي تبحث عن الحقيقة في كل مظانها وتنبذ الأباطيل والترهات وتسعى إلى الإنصاف.

لنرجع إلى فرنسوا بيرجات في معرض حديثه عن الأساليب الكاذبة لبعض مروجي مبدأ الحوار، وهم من خلال ذلك يسعون إلى تبرير سياساتهم وإعطائها الغطاء الفكري الضال والمضل: “فثقافة “التغيير” التي جرى الترويج لها في الندوات والملتقيات بالعواصم الغربية أو العربية في مطلع هذا القرن، تهدف قبل كل شيء إلى ترقية ثقافة الحوار والتغيير للمعارضين المتمردين إلى حلفاء خاضعين. ومن خلال أبعادها بعدم إدراج عنف “الدول” في مجال تدخلها، تبدو أداة الحوار الثقافي مخصصة للتنبؤ، بشكل خاص، بالعنف الموجه ضد الدول، وبالتالي إلى التصدي إلى المقاومات التي ليست بالضرورة غير شرعية لعدم مسايرة النظام السياسي الدولي. وإذا كان الفاعلون الرسميون يحبون القول “يحيا الحوار”، يبدو أن مرد ذلك عدم رغبتهم قول “يسقط الاحتلال”. وإذا كانوا يفضلون الخوض في “الثقافة”، فإنهم يفعلون ذلك حتى لا يقولوا بشكل بذيء “بترول”، “حدود” أو غيرها من “المصالح”، وحتى لا يأخذوا بعين الاعتبار نتائج سياستهم الخارجية أو سياسات حلفائهم”.

وهذا المنهج التحليلي هو الذي يتوصل من خلاله إلى كشف اللبس بتقرير الحجة وإظهار الحق، لأنه مدعوم بالعقل والاستدلال، ومن هنا يمكن أن ينطلق الحوار، ليس بين الحضارات والثقافات، ولكن بين ممثلي تلك الحضارات والثقافات، لأن الحضارات والثقافات كيانات معنوية لا تتحاور فيما بينها، فأصحابها انطلاقاً من الموروث الحضاري والثقافي عندهم هم الذين يتحاورون.

فالمغزى العام من مقالة الأستاذ فرانسوا بيرجات هو التحذير من كبوات الحوار بين الثقافات والحضارات كما يطلقها أناس من صلب بيئته الغربية لإلقاء اللوم على المنتهكة حقوقهم وتبرئة ذوي البطش من الغرب كإسرائيل مثلاً في حق الفلسطينيين؛ وانتهاج هذا النوع من الاستدلال العقلي المحكم هو الذي يعطي للحوار كمفهوم للتقريب والتسامح مع “الآخر” مدلولاً منهجياً محكم القواعد والأصول، فالتعقل ونقد الذات والإلمام بالموضوع الذي يجري الحوار حوله وتحديد إطاره العام لتحديد مساره ومعرفة كل محاور لصاحبه هي مرتكزات موضوعية يجب أن تتوافر في المحاورين قبل الدخول في الحوار، وهي الشروط التي تجعل ممارسته صائبة وخالية من كل ما يعوق بلوغ الهدف والإقناع بوجاهة الرأي المخالف واحترام أصحابه. إذ كيف يمكن أن يتفاهم فلسطيني وفرنسي مثلاً يدرسان معاً في جامعة أوروبية حول قضايا جوهرية تتعلق بالإسلام واليهودية وسبل التعايش فيما يبنهما انطلاقاً من الواقع الفلسطيني الإسرائيلي إذا لم يع الأستاذ الفرنسي حقيقة الاحتلال الإسرائيلي ومعاناة الإنسان الفلسطيني أكثر من نصف قرن من الزمان، حيث شرد وطرد من أرضه وغصبت حقوقه ونكل بأهله، وإذا قاوم الطفل الفلسطيني بحجارته المحتل الإسرائيلي، اتهم هو ديانته بالإرهاب والغلو والتطرف، وإذا امتنعت إسرائيل عن إنشاء الدولة الفلسطينية، أجيب بأن ممثلي الشعب الفلسطيني ليسوا جديرين بأخذ زمام الحكم، وإذا فتحت قنوات الحوار في مجال الحضارات والثقافات ألقت اللوم على الثقافة والدين الإسلامي لإعطاء حصانة فكرية لسياستها التنكيلية والاستعمارية.

مقالات أخرى للكاتب