أنانية الذاكرة

إن كانت العدالة من أدلَّة النزاهة.. فإنَّ المساواة ليست بالضرورة أن يُعطى الجميع بذات القدر.. إنما تقدير نسبة الاحتياج وماهيته هي عقل المساواة.. الذي يفهم أن ما يحتاجه فلان من الناس.. قد يكون مُجرَّد ترف وعبث اقتصادي بحت للآخر الذي لم تلب حاجته هو أيضًا..كونها مختلفة كمًا أو نوعًا.

لطالما وجد في كلِّ مكان وزمان.. فئة مكسورة خلف سياج الذاكرة.. لا يكاد ضجيج العابرين والمشغولين بأنفسهم أن يترك لأنينهم صوتًا يمكن سماعه.. حتَّى يتلاشى ظلهم.. ولن تراهم إلا ضمائر تبحث بين ركام التخمة عن الجياع.. والبسطاء.. ولن يفقدهم ساكنو القصور والمكاتب الفاخرة.. إلا لحظة يرحلون وتتكدس آثار أعمالهم المتواضعة.. لتغدو رواسي من العبء لن تجرؤ الكفوف المترفة أن تمارس ما يفعلونه لتكون أماكنهم لائقة بحياة البشر.

يأخذك العجب عندما تصدح منابر المصلحين عن المحتاجين.. والمنكوبين.. والمشردين في أصقاع العالم.. ولا يذكرون الأقربين المسحوقين بينهم.. من خدم في البيوت.. وعمال في المنشآت.. وعمال نظافة في الشوارع.. وموظفين بسطاء ينحتون الصخر من لقمة عيشهم.. وعاطلين عن العمل.. وكبار سن.. وفقراء الوطن ووو.. إلخ. دمعاتهم.. أليست كدمعات البعيدين؟ وإن صمتت الأفواه ما بال بصائرهم لا تقرأ معنى العوز من الوجوه المتألمة بحياء؟ فإنَّ عميت فراستهم.. فإنَّ الحال ينطق من ملبسهم وكلماتهم وأحوالهم.

على أقل تقدير وعلى سبيل المثال لا الحصر: أيها المدير ماذا عن الموظفين الأقل راتبًا في إدارتك؟ متى آخر مرة تمعنت في أحوالهم وفكرت في تحسين أوضاعهم بموقف واضح يخبرهم أنك تهتم بهم.. أو تنتفض على الأنظمة وتنتزع حقوقهم الوظيفية من بين فكي البيروقراطية والتجاهل والأنانية!

فالولاء الصامد أمام أعتى المغريات يأتي من الحب.. والحب يأتي من الاهتمام ولا شيء سواه.. ومن غفت عيونه على أحلام الإنجاز والنجاح.. بالعمل الجاد والتخطيط المحكم دون الالتفات للتفاصيل الصَّغيرة.. فإنَّ بنيانه الشاهق قائم.. لكن!! بين أعمدته ثغرات إن لم تدخل من خلالها نوازع الانتقام والشر والخيانة.. فإنَّ انتقام السَّماء لن يخذل الضعفاء.. وأناتهم الخفية صاعدة لربِّها تشكوه وكل من له يد في نسيانهم وإن كان مُجرَّد عالم بهم وساكت عنهم.. تركهم في قاع الاحتياج يغرقون وينازعون.

توقف قليلاً.. وتلفت حولك.. ابحث عنهم.. تفقد حاجتهم.. وقدم ولو كلمة إن كنت عاجزًا عن تقديم الحلول.. أخبر عنهم من يملك مفاتيح السلطة.. كن صوتهم ولو لوهلة.. جرّب أن تكون إِنسانًا.. وبعد أن نحقق المساواة هنا بين أهلونا وأقربائنا وموظفينا والعاطلين والفقراء والمحتاجين.. يمكننا أن نبحث عن المحتاج الأبعد.. فدائرة النضج كالإصلاح العام تمامًا.. تبدأ من الذات، ثمَّ تتوسع.. ولا يمكن أن نقفز مساحة منها ونتمنى أن يكون قوامنا متماسكًا ثابتًا لا تخترقه شياطين المكائد والمؤامرات.. والثورات.. وأدعياء النصرة والإصلاح.