Saturday 12/04/2014 Issue 15171 السبت 12 جمادى الآخرة 1435 العدد
12-04-2014

عن ضرورة الجمع بين الإحياء والتجديد.. والإبداع.. والتواصل

قامت مكتبة الإسكندرية بإعادة إصدار مختارات من التراث الإسلامي -الحديث - القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/ التاسع عشر والعشرين الميلاديين؛ وهو عمل جاد ومثمر يمكن للعام والخاص الاستفادة منه.

إذ لأول مرة يتم عمل دراسات تقديمية موسعة لكل كتاب، يقوم بها باحثون متخصصون من جيل الشباب في محاولة ذكية من مسؤولي مكتبة الإسكندرية لترسيخ التواصل بين الأجيال... وقامت لجنة علمية متميزة بمناقشة هؤلاء الباحثين ومراجعة دراساتهم كما تشترك معهم في حوارات علمية رصينة تضم كاتب التقديم ونظراءه من فريق الباحثين.

ومن بين كتب التراث النهضوي الإسلامي التي تمت إعادة نشرها وتوثيقها وتقديمها أعمال على شريعتي (العودة إلى الذات)، محمد مصطفى حلمي (الحياة الروحية في الإسلام)، الطاهر الحداد (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، عبد العزيز جاويش (الإسلام دين الفطرة والحرية)، نبوية موسى (المرأة والعمل)، مصطفى عبد الرازق (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية)، علال الفاسي (دفاع عن الشريعة)، الطاهر ابن عاشور (مقاصد الشريعة الإسلامية)، محمد إقبال (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، محمد باقي الصدر (المدرسة الإسلامية)، علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، خير الدين التونسي (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، عبد المتعال الصعيدي (الحرية الدينية في الإسلام)، محمد الغزالي (السنة النبوية من أهل الفقه وأهل الحديث)... وأتفق تمام الاتفاق مع الأستاذ إسماعيل سراج الدين مقدم السلسلة إلى أنه ربما كان غياب هذا القسم من التراث النهضوي الإسلامي سببا من أسباب تكرار الأسئلة نفسها التي سبق أن أجاب عنها أولئك الرواد في سياق واقعهم الذي عاصروه. وربما كان هذا الغياب أيضا من أسباب تفاقم الأزمات الفكرية والعقائدية التي يتعرض لها أبناؤنا من الأجيال الجديدة داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية وخارجها. ويكفي أن نشير إلى أن أعمال أمثال: محمد عبده، والأفغاني، والكواكبي ومحمد إقبال، وخير الدين التونسي، وسعيد النورسي، ومالك بن نبي، وعلال الفاسي، والطاهر بن عاشور، ومصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعلي شريعتي، وعلي عزت بيجوفتش، وأحمد جودت باشا -وغيرهم- لا تزال بمنأى عن أيدي الأجيال الجديدة من الشباب في أغلبية البلدان العربية والإسلامية، فضلا عن الشباب المسلم الذي يعيش في مجتمعات أوربية أو أمريكية؛ الأمر الذي ألقى على مكتبة الإسكندرية عبئا مضاعفا من أجل ترجمة هذه الأعمال وليس فقط إعادة نشرها بالعربية وتيسير الحصول عليها (ورقيا وإلكترونيا).

إن هذا المشروع يسعى للجمع بين الإحياء والتجديد، والإبداع، والتواصل مع الاَخر، وليس الاهتمام بهذا التراث إشارة إلى رفض الجديد الوافد علينا، بل علينا أن نتفاعل معه، ونختار منه ما يناسبنا، فتزداد حياتنا الثقافية ثراء، وتتجدد أفكارنا بهذا التفاعل البناء بين القديم والجديد، إسهاما في التراث الإنساني المشترك، بكل ما فيه من تنوع الهويات وتعددها.

وأعاين كأستاذ للعلوم السياسية المقارنة والعلاقات الدولية في الجامعة هذا المشكل مع طلبتنا، إذ إن كتابات رواد التنوير والإصلاح في الفكر الإسلامي خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين بعيدة عن أضوائهم؛ فيسود الانطباع السيئ عندهم أن الإسهامات الكبيرة التي قام بها العلماء والمفكرون من الأوطان العربية والإسلامية قد توقفت عند فترات غابرة، كبر عليها، ومنذ زمان بعيد، أربعا على وفاتها.

في الجامعات الغربية نرى كيف أن فقهاء القانون الدستوري ومدرسة العلوم السياسية يستوعبون من رواد الفلسفة والقانون دروسا نقدية تعطى لطلبتهم لا على وجه الاتكاء والاستسلام ولكن كوسيلة لإعمال النقد التحليلبي والنقد لبناء عقول متميزة واستلهام الدروس النيرة لبناء المجتمعات الحديثة... أنصح دائما طلبتي أن يكونوا في العصر الرقمي «فئران المكتبات» دون إغفال المكتبات «الرقمية» ولكن علهم انتقاء ما تجود به قريحة الكتاب الكبار و المراجع المعتمدة التي تفتح ذهن الطالب وتدخله في رياضة إما ردا عليها قدحا أو مساندته مدحا أكاديميا وإما معالجة جوهرية لها.

الجدل الفكري ضرورة أكاديمية ومجتمعية ولكل الأوطان؛ ومقارعة الحجة بالحجة وتوافر شروط النقد الذاتي عند شباب اليوم يستلزم منهم الاطلاع على ما كتب من مصادره لا من الكتيبات التي تنشر هنا وهناك؛ وهذا الرجوع هو الكفيل بتلقيح العقول وتهذيبها وتعديل ما اعوج من فكر وتقويم ما شذ من رأي؛ وإذا قمنا بذلك بطريقة علمية ونقدية ابتعد شبابنا عن الإرهاب الفكري ورمي الناس بالفسوق والخيانة.

ولأنه ثمة سؤال يطرحه كثير منا: لماذا تتشكل لدى بعض شباب المسلمين شعوريّاً أو لا شعوريّاً العقلية الحربية؟ ولماذا يتناسون المبادئ الإنسانية والحضارية والعمرانية والهندسية والتشريعية والسلوكية في «العمل العسكري الخالص»، حسب تعبير احد الكتاب، ويتم اختصار الخلافة مثلاً في الفتوحات، والحقب الأموية والعباسية في الحروب والصراعات؟ الحقيقة أن الجواب صعب ويتطلب جهداً عقليّاً وميدانيّاً لاجتثاث المغالطات من أصولها وإزاحة بذرة الجهل وعوامل التضليل، لأنه في غياب مثل هذا العمل، سرعان ما تجعل صاحب العقلية الخبيثة يتجه إلى الإرهاب وإلى العنف الدامي الذي يأتي على الطيب والخبيث في آن واحد.

وأخطر تجليات الانزلاق إلى هذه العقلية، الجهل التام، والخلط بين النص الإلهي والأقاويل البشرية التي غالباً ما تكون نسبية لمراد الشارع، مما يفضي إلى سلطوية أحادية في تفكير ليس بعده حل إلا الكفر والضلال، لأن الإنسان يكون مبرمجاً لاشعوريّاً على عدم الاكتراث بالمناهج الاستيعابية والأصولية والمقاصدية لهذا النص، فيقع خلط كبير بين العقل والنقل، والنص والفهم، والهوية والإقصاء، والهداية الإلهية والإكراه، والاجتهاد والتقليد، فتنزع النصوص من سياقاتها وأسباب حصولها أو نزولها، فيتجه العديد من الناس إلى العنف بناء على جملة من النصوص والأقوال التي ولدت لحظة القتال، والدعوة إلى مواجهة العدو. ولا يمكن أن نحكم على حضارة بناء على خطبة زعيم أو قائد لنحوله إلى قاعدة عامة تبنى عليها قواعد جزئية، تريد أن تزكي في الأخير سياقات استعمال القوة في القرآن التي هي في غالب الأمر طوارئ وليست بأصل، أخذها بعض العلماء وبوَّبوها في باب الجهاد، وأصبحت وكأنها قاعدة وبذلك تتكون قناعة لدى ذوي العقول المضلة والمضللة أن للقوة موقعاً أصيلًا في الدين الحنيف.

ويتفنن أصحاب العقول الضالة في القفز إلى مواطن بعينها في النص الشرعي وأغلبها متعلقة بالمعارك فتجد عقولهم تتحجر لاشعوريا وكأن فترة المدينة مثلًا هي فقط فترة غزوة بدر ثم أُحد فالأحزاب، وأخيراً فتح مكة، فيتم تلخيص الأداء الحضاري النبوي في الأداء العسكري، ورحم الله عمر بن الخطاب عندما قام بجولة تفقدية لرعاياه في الشام، ووقف على أعمال خالد بن الوليد، فبكى الخليفة وقال: رحم الله أبا بكر كان أعلم مني بالرجال. ومعنى هذا أن خالد بن الوليد لم تكن له عقلية حربية بل كانت له عقلية حضارية تبني وتشيد، وذوو «العقول العسكرتارية» التي تستشهد بخالد بن الوليد لا تقف إلا عند أدائه العسكري في اليرموك والقادسية، وقس على ذلك ذكرهم اليومي في خطبهم التحريضية، وأفكارهم الأحادية، لعلي بن أبي طالب ولصلاح الدين الأيوبي، فكأنهم خريجو مدرسة العسكر لا يعرفون إلا قوة السيف، وينسون عليّاً الشاعر والخطيب والحاكم صاحب الأفكار الصائبة ليخلع عنه في الأخير رداء البناء الحضاري ويلبس رغماً عنه لباس المغوار المقاتل.

مقالات أخرى للكاتب