Thursday 17/04/2014 Issue 15176 الخميس 17 جمادى الآخرة 1435 العدد
17-04-2014

الشفافية عند زهير

لو خير لي أن أختار شعاراً لمنظمة الشفافية العالمية لاخترت بيت شعر للشاعر العربي زهير أبن أبي سلمي (ومهما تكن عند امرئ من خليقة.. وإن خالها تخفى على الناس تعلم)، والذي اختارته العرب كأصدق بيت في الشعر، وقيل إن عمر بن الخطاب كان شديد الإعجاب بزهير، لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه، والمعاظلة في المنطق هو الكلام بالرجيع من القول وتكرار اللفظ والمعنى، والإصرار على المغالطات رغم وضوح المعنى، أما المنطق فهو الاستدلال السليم الذي خرجت منه فلسفة الاستقراء والتجربة والاعتماد على الأدلة العلمية الموثقة.

في البيت الشهير إشارة من جاهلية العرب أن الإنسان مهما حاول إخفاء خليقة ما سيعلم الناس عنها، وتفضحه عادة المعاظلة في المنطق والتناقض في القول، وتعني في اتجاه آخر أن قمة المصداقية أن لا يتناقض الإنسان مع نفسه، مهما كانت مكانته في المجتمع، ومهما حاول أن يقدم نفسه في صورة الإنسان المتدين، فالمنطق أو التفكير السليم فطرة إنسانية لا تحتكم إلى الإيمان بأيدولوجية معينة، ولهذا السبب هاجم القرآن الكريم المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ، في إشارة إلى أن التدين أو التظاهر به لا يحمي من ميل الإنسان لتضليل الناس أو التعتيم عن معلومات أو خلائق معينة.

عدم التناقض والتطابق بين الباطن والظاهر تعود إلى ذات الإنسان نفسه، وإلى بوصلة داخلية تطلق إشارات للعقل إذا تناقض الإنسان مع نفسه، لكنها قد تتضخم عند البعض لدرجة الهوس بالمنطق، وقد تختفي عند آخرين لدرجة الفساد، لكن بيت القصيد هو عن أولئك الذين يعلمون، ولكنه لا يترددون في إخفاء الحقيقة، وذلك ظناً منهم أن المجتمع لا يجب أن يعرف الحقائق، وأن من مبادئ إدارة الناس التحكم في المعلومات وعدم السماح لهم بالاطلاع عليها، وتلك آفة طال أثرها السلبي في الثقافة العربية.

تختزل المعرفة الحديثة تلك الأبعاد في مصطلح الشفافية، والتي تٌشتق مفردتها من فعل (شف) الثوب ونحوه، أو رق حتى يرى ما خلفه، أما اصطلاحا فتعني» المكاشفة بين الإدارة والناس، وهي تعني إجرائيا: «الوضوح والمكاشفة التي ينبغي أن تكون تجاه قضايا الفساد المالي والإداري من قبل كافة مؤسسات الدولة وفئات المجتمع، والشفافية هي الصدق في حياتنا، والصدق قيمة أساسية في بناء الاستقرار، وليس شعاراً، ويجب أن تكرس قيمه في الحياة العامة على صعيد المنزل والعمل والمجتمع والوطن، بينما يقضي التناقض والتعتيم والتضليل على المصداقية بين الناس، ويحطم علاقات الثقة بين المواطن المسؤول، وبين الأب وأبنائه.

في العصر الحاضر، تنطبق حكمة زهير على الحكومات والمؤسسات الإدارية مهما اختلفت أيديولوجياتها، والتي مهما تظاهرت بالتدين أو التحديث، وأخفت الحقيقة ستعلم الناس عنها، وسيؤثر ذلك على مصداقية السلطات العليا، فثورة المعرفة والاتصالات أصبحت الوسيلة الأكثر كشفاً بآفة التناقض والتضليل والتعتيم، لذلك جاءت منظمة الشفافية العالمية لترسخ مبادئ الأمانة والصدق، ولتكشف معدلات التناقض في المجتمعات الإنسانية، ولتراقب أولئك الذي يعتقدون أنهم أكثر ذكاءً من الناس، وأنهم قادرون على التلاعب بالحقائق وإخفائها، كذلك جاء تأسيس «نزاهة» محلياً لتكريس مفاهيم الشفافية، ولمراقبة الفساد الذي من أهم أسلحته التضليل والتعتيم.

باختصار لا يمكن بأي حال احتكار المعلومة في العصر الحديث، فوسائل المعرفة الحديثة أصبح لديها القدرة على النفاذ إلى ملفات المؤسسات السرية في العالم، وكانت ثورة ويكليكس دليلاً على أن الإنسان قادر على كشف المعلومات السرية في أكثر المؤسسات تحصيناً، وهو ما فجر ثقافة البحث عن الحقيقة بين البشر مهما كلف الأمر، وقد نستطيع القول إن عصر التعتيم قد ولى، وإن كسب ثقة الناس واحترامهم مهرها الشفافية والمصداقية.

مقالات أخرى للكاتب