Monday 05/05/2014 Issue 15194 الأثنين 06 رجب 1435 العدد
05-05-2014

إشكالية التناسب بين الساق واللحاف

كلما شب الطفل وزاد طولا، زادت حاجته إلى قطعة قماش أطول، كلباس يستر به نفسه ولحاف يتغطى به عند النوم. الأهل يلتزمون لطفلهم بهذه المتطلبات قدر الاستطاعة، إلى أن يكبر ويعتمد على نفسه، ثم ينعكس الاتجاه التكافلي ويصبح من الجديد للقديم، من الأبناء والبنات للآباء والأمهات.

عندنا مثل قديم يقول مد رجلك على قدر لحافك، للتعبير معيشيا عن العجز في تأمين متطلبات النمو بالطول والعرض، واجتماعيا عن ضرورة التقيد بالقدرات والإمكانيات في كل نواحي الحياة.

التطور العلمي الذي لم نشارك فيه بعد سوى بالاستهلاك، جعل الحياة العصرية أسهل وأقل اعتماداً على المجهود العضلي من طلوع الشمس إلى غروبها، كضرورة لتأمين لقمة العيش في المقام الأول. زراعة المساحات الشاسعة آليا ومصانع المستلزمات الطبية والدوائية ووسائل الاتصالات والتواصل ومراكز التسوق الضخمة، وكل هذه الأمور هي منجزات علمية عقلية، ولكن لا يفكر فيها من ولد في وسطها ولم يجرب الحياة في ظروف العيش قبلها.

هذه المواصفات الجديدة للحياة أسست للانتقال الحضاري ولبداية الاعتماد شبه المطلق على الإبداع والمجهود العقلي، وجعلت ذلك ضرورة مستمرة لتفادي الانزلاق مرة أخرى والعودة إلى المجهود المعيشي القديم، بما يترتب عليه من محدودية الإنتاج والإرهاق الجسدي المستمر لتأمين شروط البقاء.

في هذه المعادلة المائلة لصالح الناتج العقلي تكمن إشكالية صعبة. استسلام الجسد لما يوفره له العقل من إمكانيات الراحة وإغراءات الاسترخاء يؤدي إلى الارتخاء الجسدي، وتصبح العودة إلى متطلبات القوة العضلية المادية القديمة شبه مستحيلة. تصبح الإشكالية أكبر صعوبة عندما يتم الاستسلام للمنجزات الاستهلاكية في مجتمعات لم تساهم ولو مشاركة في إنتاجها، وإنما دخلت إلى عالمها بطريقة القفز من فوق السور، فأصبحت شكليا محسوبة على العالم المتطور معيشيا، بينما هي إنتاجيا ليست كذلك.

الملاحظ أن المجتمعات التي صنعت عالم الثورة الصناعية قبل نحو ثلاثة قرون، وأيضا تلك التي لحقت بها فيما بعـد بجهودها الذاتية، ما تزال أكثر اهتماما بالتواصل مع الأنماط القديمة للحياة ورعايتها تحسبا لظروف مستقبلية قد تعيد الحاجة إليها. الناس في تلك العوالم يستمتعون فقط في حدود المعقول بمنجزاتهم العلمية الحديثة، لكنهم مازالوا يغوصون في أعماق المحيطات بحثا عن الثروات ويسبرون مجاهل الصحاري ويخترقون الثلوج القطبية للتعرف على أساليب الكائنات هناك في التكيف مع الظروف المعيشية في تلك البيئات الصعبة، بل ويبحثون عن كواكب بعيدة تصلح للحياة.

على النقيض من ذلك تعيش المجتمعات التي قفزت من فوق السور إلى داخل السوق الاستهلاكي للتبضع ومقايضة ثرواتها الخام مقابل الحصول على ميزات المنتجات العلمية الحديثة. هنا تكمن إشكالية غياب النسبة والتناسب بين طول السوق الاستهلاكي (الجسد) واللحاف الإنتاجي (العقل).

جميع الدول الأفريقية (ربما عدا جنوب أفريقيا)، وأغلب دول أمريكا اللاتينية، ونصف الدول الآسيوية، وكل الدول العربية تشملها احتمالات طول الساق الاستهلاكي وقصر اللحاف الإنتاجي، ودول مجلس التعاون الخليجي تعطي أوضح الأمثلة.

عندما تواجه واحدة من هذه الدول كارثة بيئية مفاجئة (طوفانا أو هزة أرضية على سبيل المثال)، أو جائحة وبائية (فيروس أيبولا في أفريقيا أو كورونا في الشرق الأوسط)، أو فترة جفاف طويلة لم تستعد لها بالسدود المائية، عندئذ يموت الناس بالمئات أو بالألوف. هنا ينكشف الساق بالكامل لأن اللحاف قصير جدا على تلك المفاجآت غير المتوقعة. عندئذ أيضا لا تكفي الموارد الطبيعية لتغطية التكاليف البشرية والمادية، ولابد من طلب الإغاثة من أولئك الذين يملكون وسائل القوة المادية والعلمية.

الحل هو منذ البداية الاستثمار في العقل مع عدم الاستسلام البليد لمغرياته الاستهلاكية، والمكان الأول المناسب لذلك هو المدرسة.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب