Saturday 14/06/2014 Issue 15234 السبت 16 شعبان 1435 العدد
14-06-2014

الوهابية.. بين تحمل اللوم وتحمل المسؤولية

ما كان يُعتبر في أعراف الأمم والشعوب شرفاً وفخراً بالأمس، يظل دائماً فخراً وشرفاً تاريخياً تعتز به الأمم المجيدة، حتى ولو أصبحت هذه الأفعال تعتبر في العرف الحاضر من العار والخطأ. وبما أن تاريخ الأجداد والآباء كان فخراً لهم، فسيظل فخراً للأبناء، إلا أن يستعير الأبناء منه فينكرونه ويتبرأون منه، فليس هناك مجال لتحمل اللوم في ذلك، فكيف تُلام الشعوب على أمجداها. ولكن على الشعوب والدول والأمم تحمل مسؤوليات تاريخ آبائها وأجدادها في استمرارية وحيها وأثرها لتحقيق المفاخر في أعراف الحاضر.

ولذا، لم يُنكر النصارى وحشية وظلم النصرانية التي طُبقت على مدار القرون، ولكنهم لم يتحملوا اللوم على الدموية التاريخية للنصرانية (فقد كانت هذه الدموية هي نمط الحياة وشرفها)، بل تحملوا مسؤولية نصرانيتهم، فعملوا على منع تكرار ما سبق وجعل نصرانيتهم منارة سلام أممية. ولم يتبرأ الأمريكان من دماء الهنود الحمر، ولم يتحملوا لوم دماء الهنود، ولكنهم عملوا على تحمل المسؤولية في عدم تكرره وفي جعل بلادهم أعظم إمبراطورية في العالم الحديث. ولم تُنكر بريطانيا وحشيتها في قمعها لثورات التحرير الأمريكية، ولم تتحمل اللوم قط بل ولكنها تحملت المسؤولية في الاستفادة من دروس ذلك التاريخ الوحشي. ولم يُنكر الأمريكان والغرب وحشيتهم وظلمهم للعبيد، ولم يتحملوا قط اللوم في الرق، ولكنهم تحملوا مسؤولية نشر تحرير الرقيق وإزالة العنصرية. وهكذا، فما أكثر شواهد تاريخ الأمم والشعوب العظمية في هذا الباب.

فإنكار الحقائق التاريخية هو دفاع سلبي لا يأتي إلا بعكس مقصوده. ففي إنكار الحقيقة إثبات لسوئها ولسوء من قام بها من الأبناء والأجداد، وتحمل لعتبها ولومها وخطأها، وتصديق لعدو ومُغرض وتحقيق لغرضه.

نعم.. قد كانت السلفية الوهابية دعوة قوية فيها من الشدة ومن القسوة ما لا ننكره بل نفتخر به، فقد كان في زمانهم مفخرة لهم، فقد كان يتلاءم تماماً مع عصرها. كما تلاءم قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلمان اليهود من بني قريظة في ذلك الزمان، فنحن نفخر بفعله عليه الصلاة والسلام، ولا ننكره ولكن لا نجعله سنة نمتثل بها في هذا الزمان، وإن كان مفخرة في زمانه عليه الصلاة والسلام. وهكذا، فكما أعز الله دينه ورفع العرب بسيوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك قد وحد الله بالسلفية الوهابية، بلاداً كانت ممزقة متناحرة. كما نفع الله بها في إزالة كثيرٍ من الانحرافات العقائدية في العالم لإسلامي.. نعم لا ننكر تاريخ أجدادنا وآبائنا، ولا نستعير منه، بل هو فخر لنا نفاخر الأمم به. فلم يكن هذا التاريخ ببدع بين تاريخ الأمم العظيمة والدول العزيزة والشعوب الأبية والمجتمعات الشريفة. فلا يجدر بنا أن نتحمل لوم الوهابية فننكرها، ولكن يجب علينا أن نتحمل مسؤولية هذا الإرث من الفخر والمجد، بضمان عدم تكرار ما حدث وبتجديد ما عدى على صلاحيته الزمان وبإتمام جانبها العملي التي قصرت عنه ولم تتمه. وهذا كما تحملت الأمم الأخرى مسؤولية أمجادها التاريخية فلم تتبرأ منها بل عملت على بناء مجد لهم كما بنى آباؤهم مجداً لهم. فإن لم نتحمل مسؤوليته، لم يضع منا فحسب، بل سيستخدمه عدونا وسفيهنا سلاحاً ضدنا.

كم جلست مع مفكرين أجانب، فلطالما شخصت عيون، ومُطت شفاه، ودهشت وجوه واستنكرت آذان سماعها قولي: أنا وهابي ولا فخر. وأنا ابن الوهابية، عليها نشأت وبطريقتها عبدت الله، وبها أحاجج في دين الله، وبها أدينه يوم القيامة. فما فهمتُ شريعة الرحمن، إلا بفكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب في توحيد الربوبية والألوهية في أفعال القلوب والجوارح. وإن كانت الدعوة قد اقتصرت على أفعال القلوب، ولم تتمكن من إتمام دعوتها في أفعال الجوارح. وأحسبني من أعرف الناس بها وأعلمهم بدهاليز فكرها. ولذا فقد رأيت حقيقة جوهرها الفكري المخبأ، فأدركت قوتها الكامنة في تحرير أحكام الإسلام وإطلاقها في عالم الحياة التطبيقية، فصرت بذلك من أخلص الناس هياماً بها، ومن أصدق عُشاقها، وشاهد ذلك أني لم آكل بها، ولم أسترزق منها. فقد حملت همها إذ قد ضاع همها بين دروشة عُشاقها المحبيين، وبين تمصلُح أدعيائها وورثتها المستنفعين من خيرها. فقد أدركت إمكانية نفعها للإنسانية، وقوة حجتها في توحيد رب العباد، فلا أقصر جهداً لأتمم جهد الآباء ليشمل لتوحيد وتجريد التعبد له في أحكام معاملات العباد على الشرع الصحيح لا على قيل وقال ممن قال برأي أو هوى أو سياسة. فيقبلون عليّ يتساءلون فأحدثهم، وخلاصة حديثي معهم هي أن السلفية الوهابية منهج فعال ومرن. وقد كان صلباً متشدداً قاسياً في وقت كان هذا كله يعد مفخرة وضرورة، فنفع الله بذلك فتوحدت بها بلادنا بعد فرقة. كما نفع الله بها، مباشرة أو غير مباشرة، في دفع كثير من الخرافات التي كانت في بلاد المسلمين. وقد تغير الزمان والأعراف، فلم تعد صلابتها وتشددها من مفاخر اليوم ولا مما ينتفع به. ولذا فهي مُعطلة اليوم، تتوالى عليها الغارات من الشرق والغرب بطعنها في تاريخها (عندما أنكرنا تاريخها) وبتحميلها سفاهات كل سفيه مجرم دموي ومتخلف عقلي، ادعى نسبه لإسلام باسم أو دعوى. ولا تزال السلفية الوهابية، عاجزة عن رد هجمات غارات السفلة والمغرضين، لجمود فكر حملتها وركونهم للدعة. فلو تحملنا مسؤولية شرف الوهابية فقمنا بنفض الغبار عليها وصقلها، لوجدنا أنها المنهج الوحيد القادر على علاج وإصلاح ما لحق بالإسلام والمسلمين من ضياع دينهم وشتات جمعهم وسفاهة عقولهم. وفعل هذا بسيط هين، فالوهابية منهج بسيط لأنها دعوة دين بسيط. فتراهم يتساءلون منكرين أو متهكمين «فلم لا يكون ذلك؟»! فأقول لأنه قد صعُب على ابنائها فهمها، ومن فهم أخفىما علم تأولاً لمصلحة شرعية أو طمعاً في مصلحة دنينوية.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب