Tuesday 05/08/2014 Issue 15286 الثلاثاء 09 شوال 1435 العدد
05-08-2014

فقيد الوطن ودبلوماسية المواطنة

تعرفت على الزميل السفير إبراهيم صالح بكر في ديوان وزارة الخارجية في مدينة جدة (المقر الرئيسي) آنذاك وتوطدت العلاقات مع بعضنا البعض مع الوقت عبر تعدد اللقاءات الخارجية، اللقاء الأول: في اجتماعات مؤتمر وزراء خارجية دول حركة عدم الانحياز (العاشر) الذي عقد في مدينة أكرا بجمهورية غانا عام (1412هـ - 1992م) إذ كان يشغل -آنذاك - مساعد الأمين العام لمنظمة (المؤتمر) الإسلامي للشؤون السياسية وكنت نائباً لرئيس وفد المملكة إلى المؤتمر، ممثلاً للوفد في كل اجتماعات المؤتمر الوزاري وكبار المسؤولين (وزراء الخارجية) وفي اللجان السياسية والاقتصادية والصياغة فكنا نلتقي بشكل دائم نتجاذب أطراف الحديث في مختلف القضايا المطروحة على مدار البحث في المؤتمر، ولاحظت أن الرجل يكبر في معرفتي بمواقف حكومة بلادي في القضايا العربية والإسلامية والدولية لدرجة يطلب بصفة دائمة الالتقاء مساء في بهو الفندق لتبادل الآراء، وخاصة وأنه كان يدغدغ مشاعري بعبارة أنت ما شاء الله لا تزال شاباً وكتابك (مواقف المملكة العربية السعودية من القضايا العالمية في هيئة الأمم المتحدة) في مكتبي أعود إليه بين الحين والآخر، فهو مرجع في موضوعه ويحتاجه كل من يعمل في المنظمات الاقليمية والدولية وكل من له علاقة بالشأن الخارجي.

وفي هذا المؤتمر كانت احدى الدول الشقيقة تطلب مني شخصياً بالسير في فلكها في كل ما يطلب منها في قضايا عربية وغير عربية حتى في استمرار بقاء حركة عدم الانحياز كمنظمة اقليمية تضم في عضويتها أكثر من مائة وخمسين دولة أو إلغائها لاقتصار دورها على الساحة الدولية! أشرت لرئيس وفد هذه الدولة التي كان يمثلها على مستوى وزير خارجيتها لا أتفق مع ما تطرحونه من وجهات نظر لا تتفق مع ما نراه - نحن كممثلين لبلدنا، أصغى أبو سامي - السفير إبراهيم -رحمه الله رحمة واسعة- بحرص شديد، ولاحظ ما أبداه (وزير الخارجية) من انزعاج تام خاصة عندما اشرت بأهمية وجود الحركة وعدم تغير مسماها وإنما تغير آلية عقد مؤتمراتها سواء على المستوى الوزاري أو على مستوى القمة بالدعوة إلى إنشاء مقر دائم لها رغم أن أحد زعمائها كان من المؤسسين لها، وأشار بأنه حاول اقناع رئيس الوفد بوجهة نظر بلاده، فرفض، وطالب مناقشة أي موضوع يتعلق بالحركة بشخصي!

أعجب أبو سامي (السفير إبراهيم) بهذا الموقف الصلب، واقتنع بوجهة نظري وبما أبديته من مبررات وعندما التقى برئيس الوفد (السفير سمير صبحي الشهاب) في بهو الفندق قال له بالحرف الواحد: أنا - يا أخ سمير - ممنون لكم بمن يمثلكم في كل اجتماعات المؤتمر وعرفتم بوضع من يمثل بلدنا بحق وحقيقة!

وفي آخر جلسة للمؤتمر طلب مني -رحمه الله- أن انقل خدماتي إلى منظمة المؤتمر الإسلامي كمدير عام للمؤتمرات، فشكرته شكراً جزيلاً على هذه الأريحية. واضاف: الوظيفة شاغرة، والمنظمة في حاجة ماسة إلى مثلك وأنا في انتظارك!

وبعد مضي بضع شهور على لقائنا قابلني في ديوان وزارة الخارجية في مدينة الرياض، وأنا كنت مديراً لمكتب رئيس المنظمات الدولية والمؤتمرات، قائلاً: فاتحت عبدالرحمن، يقصد وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية (الشيخ عبدالرحمن أمين منصوري) فرفض رفضاً باتاً، ناقلاً بالحرف الواحد ما قاله المنصوري له: عندك السياسية كلها اختر من تريده، فنحن ما صدقنا نحصل على مثله في الوزارة فهو ملم إلماماً جيداً بالقضايا السياسية اقليميا ودوليا إلى جانب تخصصه في الاقتصاد والإدارة والعلوم السياسية ويجيد اللغة الإنجليزية نطقاً وكتابة مع المام بالفرنسية والاسبانية.

واللقاء الثاني: في اعقاب انعقاد مؤتمر وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثالثة والعشرين الذي عقد في مدينة كوتاكري بجمهورية غينيا عام (1415هـ - 1995م) كنت أعمل كسفير رئيس بعثة سفارة خادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية غينيا ومشرفاً على وفد المملكة إلى المؤتمر، عانقني - رحمه الله- عناقاً أخوياً كريماً فرحاً مسروراً بهذا اللقاء قائلاً: لعله يكون فاصلاً لعملك معي في المنظمة! فشكرته على ما تفضل به من تجديد عرض النقل إلى منظمة المؤتمر الإسلامي على الوظيفة ذاتها، وطلبت منه أن يمهلني بعض الوقت!

وفي زيارة لمقر سكني في دار سكن السفير في مدينة كوناكري بجمهورية غينيا ابان اقامتي حفل عشاء على شرف معالي الأخ عبدالرحمن أمين منصوري والوفد المرافق له، فاتح معاليه على الموضوع ذاته مجدداً له الطلب، فبادره بصوت مرتفع! لماذا تلح في الطلب؟ فقد سبق أن ذكرت لك أنا في حاجة ماسة إليه في الوقت الحاضر، اختر من شئت في السياسية عندك عشرة إدارات! اجابه -رحمه الله- بهدوء: يا أخ عبدالرحمن، وجدت فيه المواصفات التي كنت ابحث عنها منذ تعييني في المنظمة، وبصراحة تامة لم أجد أفضل منه، فهو يجمع بين شيئين أساسيين المعرفة والخبرة إلى جانب الجدية في العمل والالتزام.

نظر إليه نظرة حادة ! فهمها -يرحمه الله- لا تجادل، فالرجل نحتاجه في الوزارة أكثر من احتياجك له! يكلف - يقصدني - بحضور لجان، ويشارك في مؤتمرات اقليمية ودولية!.

وفي اللقاء الثالث (الأخير) في مكتبي بمقر عملي في سفارة خادم الحرمين الشريفين في مدينة كوناكري لفت نظره بعض مؤلفاتي في العلاقات الدولية، ومن ضمنها مؤلفي بعنوان: (حركة عدم الانحياز بين النظرية والتطبيق) الموضوعة في الدولاب خلفي، فطلب عنوان المكتبة لكي يرغب الاحتفاظ بنسخة منه في مكتبه، والمؤلف الآخر: هيئة الأمم المتحدة منذ النشأة وحتى اليوم، فقدمت له الكتابين كهدية للذكرى، فشكرني على اهداء نسخة من كل كتاب، وطالب بالاستمرار في تقديم ما يفيد القارئ، فهي تعد مراجع يندر وجودها في المكتبات أو من كتب بموضوعية عنها.

تغمد الله الفقيد بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته والهم أهله وذويه وزملاءه الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

مقالات أخرى للكاتب