27-09-2014

المثقف والسلطة!

في بداية تأسيس النظم السياسية العربية لعب المثقف والإعلامي والكاتب دوراً نبيلا في تطوير المجتمع وتطوير بناء الدولة والمساهمة في مسارها نحو آفاق فيها الكثير من الأمل. كما لعب المثقف والإعلامي والكاتب دوراً إيجابيا في كشف الحقائق الموضوعية وتشخيص مخاطر الهيمنة الخارجية على البلدان العربية ونظمها السياسية المتأسسة حديثا. وظهرت أسماء كبيرة نعتز اليوم بتاريخها وموقفها وقوة إبداعها في كل مسارات الفن والأدب العربي.

لم يكن المثقف موظفا لدى الدولة حتى وأن تمتع بمكانة وظيفية. قسم من الأدباء والمثقفين كانوا يعملون في الصحف والإذاعة وأحيانا في محطات التلفزة إذ لم تكن ثمة فضائيات وبهذا الكم، ولكن قسما كبيرا منهم كان يعمل في وزارة الدولة ومؤسساتها كموظفين لا علاقة لمهنتهم بوظيفتهم وكانت الثقافة والأدب والإعلام هاجسا ثقافيا وإبداعيا ووطنيا يمارسونه في المؤسسات الإعلامية والثقافية.

كانت الدنيا بخير وقد لعبت الثقافة دوراً إيجابيا في هذا الخير وتعميم هذا الخير وزيادة هذا الخير في الكم والنوع.

هذه الأسماء خالدة في وجداننا ونتذكرها بإعتزاز وهي محفورة في قلوبنا وصورهم مؤطرة على جدران بيوتنا وفي غرف المثقفين ومكاتب أعمالهم، مع أننا لم ننصفهم بعد بما يستحقونه من الإنصاف وذلك بسبب انشغالنا بالخراب السائد.

لقد تغير الواقع الآن وهو أمر مؤسف حقا ومؤلم حقا لأنه لا يتعلق بموقف المثقف من السلطة بل يكمن في نتائج هذا الموقف في حياة شعوبنا ومستقبلهم. واقع المثقف هذا لم يكن استثاءً بل أصبح ظاهرة وأصبح الموقف النبيل هو الاستثاء.

لقد تمثل خوف السلطات العربية بحاجتها إلى معلنين عن صواب الرأي الخاطئ وصحة الموقف الخاطئ. وتم استقطاب كل الإعلاميين والمثقفين ليعملوا كموظفين مسلكيين يترجمون مواقف السلطات عبر وسائل الإعلام وحتى عبر الثقافة مقابل الراتب الذي يتقاضونه!

الإعلام ومع التطور لم يعد اليوم إعلاما محضا بل أصبح في جانب منه ثقافة. فالكتابة للإعلام هي ثقافة والأداء في الإعلام هو ثقافة وكتابة البرامج الدرامية هي ثقافة والتقنية وعمليات التوليف التلفزيونية هي ثقافة. وإخراج الصحيفة وتصميم الصفحة هي ثقافة وطبيعة الصورة الثابتة والمتحركة هي ثقافة. وكل هذه الثقافات تكرس لمهام إعلامية.

المنتسبون للمؤسسات الإعلامية العربية في كل أشكال ادواتها المقروءة والمسموعة والمرئية يعملون كموظفين تابعين لهذه الدولة أو تلك وصاروا يترجمون سياسات تلك الدول عبر وسائل الإعلام والثقافة. فالدولة التي تعمل بشكل يومي تقع في أخطاء إدارية وتقع أيضا في أخطاء ستراتيجية أحيانا، وبدلا من أن يشكل المثقف ضمير الواقع ووجدانه صار يتجاوز تلك المهمة الإنسانية الكبيرة لينظر لأخطاء فادحة وقعت فيها الحكومات وساهمت الثقافة والإعلام في تجسيد تلك الأخطاء وأصبحت جزءاً من تلك الأخطاء. وها نحن نرى اليوم الخراب السائد في مجتمعاتنا وتمزق نسيج الوطن الواحد، ونرى نزف الدماء أنهراً ونرى تهديم كل البنى التحتية لمجتمعاتنا ونرى المثقف مترجما لسياسات الخراب دون أن يتخذ موقف الضمير وموقف الوجدان في تشخيص الخطأ وتنبيه السلطة إلى خطأ المسار أو خطأ الستراتيج أو خطأ التكتيك السياسي!

أحيانا، تنتبه السلطة إلى أخطائها وتعمل على التراجع عن مواقفها السياسية، فنرى المثقف والإعلامي يتراجع معها ما يؤكد الشكل المسلكي والوظيفي للمثقف، فيما وظيفة المثقف والإعلامي هو تثبيت الموقف الصح، الموقف الضميري والموقف الوجداني باعتباره الشاهد والشهيد على أحداث الوطن ومسار السلطات الحاكمة.

فلو كان المثقف والإعلامي في أيامنا هذه قد أخلص لمهمته ولإبداعه الثقافي والإعلامي لكنا اليوم في حال أكثر ربحا في الحياة على مستوى التطور الإنساني وأقل خسارة مما نحن فيه اليوم من تمزق وخلاف وغياب وانحسار في الثقافة في مستواها وفي حجم إنتاجها وفي حجم سبرها لأغوار الواقع وكشف الحقيقة الموضوعية والارتقاء بالمستوى الجمالي للفرد.

على الحكومات وحتى تعرف طريق مسارها الوطني أن ترفض تعيين المبدعين برتبة موظفين، بل أن يتم تعيينهم برتبة مبدعين وبمنزلة الضمير والوجدان حتى يشكلوا مرآة صافية للسلطات التي تحب بناء أوطانها. مرآة تعكس الشكل مثل ما تعكس المضمون!

k.h.sununu@gmail.com

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

مقالات أخرى للكاتب