28-11-2014

الشمولية الثقافية وسلخ المجتمعات من هويتها

عندما نتحدث عن الشمولية الثقافية فإننا نتحدث عن ظاهرة تمثل نوعاً من أنواع الغزو الاستعماري الذي يفوق خطره كثيراً الغزو والاستعمار الجغرافي.. فالشمولية الثقافية ما هي إلا غزو ثقافي يمس ذاتية الأفراد والمجتمعات والأمم ويستعمر عقولهم بما يحمله من خطاب ثقافي مفاده أن لا مجال للتعدد الثقافي وإنما البقاء للثقافة الشمولية مهيمنة على كل ثقافات الشعوب والأمم على حدٍّ سواء..

وهنا مكمن الخطر باعتبارها مسخاً واستعماراً ثقافياً يفرغ هوية أي مجتمع من أصلها ويسلب الخصائص الثقافية من النسيج المجتمعي الواحد لتنصهر في بوتقة الثقافة الشمولية.. لكن هذا لا يعني أن نعزل العامل الثقافي لمجتمع معين من أبعاد الانفتاح وقراءة ثقافات الشعوب أو نقصي تحديات الهوية المجتمعية من حق التقدم شرط ألا نتخلى عن ثقافاتنا وهوياتنا التي نظل نفخر ونعتز بها.. وألا تكون العولمة الثقافية فخاً لنا لإضعافنا تدريجياً لنصل إلى الحدِ الذي ننحو فيه إلى التبعية.. فتذوب عناصر الانتماء والولاء لثقافتنا العربية في ثقافات مبنية على فلسفة استعمارية في إطار أُطلِق عليه مسمى الثقافة الشمولية.. وبمضمون يتمثل في ديمومة تأثيرها في اتجاهات الرأي العام العربي وتطويعها للتكيف مع المصالح الغربية.. وتعزيزها إلى المستوى الذي يكفل فتح أبواب القبول العربي أمام الوجود الغربي وعلى وجه الخصوص الوجود الأمريكي.

الواقع الذي لا مراء فيه أن محاولة السيطرة على العقول العربية تعكس الميول البراغماتية والأساليب غير الأخلاقية المبنية على المكر والخبث الأمريكي والغربي بصفة عامة وتهدف إلى النفعية المنطلقة من النهج المكيافللي القائم على.. الغاية تبرر الوسيلة.. هذا الأمر ليس جديداً أو حديثاً على المجتمعات العربية والإسلامية فمنذ عهود الاستعمار الأولى والاحتكاك بالغرب الذي دام سبعة قرون خلال الحروب الصليبية ما فتئ هذا الغرب من توظيف إمكاناته لدراسة طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية سعياً وراء سلخه عن تاريخه وحضارته وطمس هويته الثقافية.. ومن الغرابة بمكان أننا نجد الغرب يجمع بين نقيضين فهو من جهة شديد الاعتزاز بهويته الثقافية، ومن جهة أخرى يرفض الاعتراف بالهويات الثقافية الوطنية لشعوب العالم.. فالمفكر والكاتب الأمريكي ذو الجذور اليابانية (فوكوياما) يرى أن ثقافة أمريكا هي النموذج الأعلى الذي يجب أن يُحتذى.. بل إنه يراها نهاية الرقي الإنساني والحضارة البشرية.. وقد رد عليه (صمويل هانتجتون) رداً لاذعاً في كتابه (صدام الحضارات) حيث قال: الحضارة الغربية ليست عالمية.. وأن أي محاولة لفرضها على العالم ستقود إلى صدام وحرب بين الثقافات.. وأن المستقبل سيشهد زوال الحضارة الغربية.

إن التطور الهائل في وسائل الاتصال يؤكد أن السير اليوم هو في اتجاه الهيمنة الثقافية بمعنى مظلة الشمولية الثقافية التي تخفي وراءها غايات من التوسع لغزو العقول واستعمارها والسيطرة عليها.. بينما لم تكن ثقافتنا العربية والإسلامية في يوم ما ثقافة أمة غازية متطلعة إلى السيطرة بل كانت ثقافة بناءة قابلة للتحاور لذا فقد استوعبت عصارة الثقافات المختلفة دون المساس بالهوية الثقافية الوطنية لأي شعب من شعوب العالم.

فإذا كان واقع اليوم يمر بتطور مهول في عالم الاتصالات والمعلومات.. ويشهد تحولات عميقة في مجالات الثقافة والفكر والنشاط الذهني فإننا لا نملك أن نمنع العولمة الثقافية وشموليتها من الانتشار لأنها ظاهرة واقعية تفرض نفسها بقوة النفوذ السياسي والتغلغل الإعلامي والمعلوماتي التي يمارسها النظام العالمي.. لكننا نستطيع أن نتحكم في الآثار السلبية وتداعياتها ببذل جهود مضاعفة للحد دون تغلغلها في النسيج الثقافي لأي مجتمع من المجتمعات.

zakia-hj1@hotmail.com

Twitter @2zakia

مقالات أخرى للكاتب