عندما اختار الرئيس الأمريكي المملكة العربية السعودية لتكون أول وجهة خارجية له، لم يكن هذا الخيار مجرد ترتيب بروتوكولي أو قرار عابر، بل جاء تعبيرًا واضحًا عن إدراك دولي متزايد للدور السعودي المتعاظم في الساحة العالمية، وعن تقدير حقيقي لما تمثله الرياض من ثقل دبلوماسي واستراتيجي في المشهد الدولي المضطرب.
لم تعد المملكة مجرد حليف إقليمي، بل أصبحت دولة مفصلية، تُؤخذ مواقفها بجدية، وتُحسب كلمتها في توازنات القوى، ويُستأنس برؤيتها في الملفات الكبرى.
هذا التحول لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة رؤية سياسية عميقة قادتها القيادة السعودية، ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي دشّن مرحلة جديدة في السياسة الخارجية، عمادها المبادرة والشراكة المتوازنة والبراغماتية الواقعية. صعدت الدبلوماسية السعودية إلى موقع الفاعل لا المراقب، والمبادر لا المتلقي.
لقد أعادت المملكة رسم معادلة «الحياد الفاعل»، فابتعدت عن الانجرار وراء المحاور والأحلاف، دون أن تتنازل عن دورها في تهدئة الأزمات وتيسير الحلول. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الروسية الأوكرانية، برزت الوساطة السعودية كإحدى المبادرات القليلة التي حظيت بقبول الطرفين، وأسفرت عن إطلاق سراح أسرى من جنسيات متعددة، ما كرّس صورة المملكة كقوة سلام محترمة ومقبولة لدى الأطراف المتخاصمة.
إن زيارة الرئيس الأمريكي ليست مجرد مجاملة دبلوماسية، بل اعتراف بدور المملكة المركزي في ضبط إيقاع المصالح الدولية، خاصة في ظل الأزمات المتشابكة التي يعيشها العالم. فهي دولة ذات تأثير اقتصادي كبير بفضل مكانتها في سوق الطاقة العالمي، وذات قدرة سياسية على التأثير في ملفات إقليمية حيوية كإيران واليمن والسودان، إلى جانب حضورها المتنامي في قضايا الأمن الغذائي والمناخ والابتكار التقني.
هذا الحضور عزّزته الدبلوماسية السعودية من خلال نهج جديد يتمثل في بناء شراكات متعددة، لا تستند إلى الولاءات التقليدية، بل إلى المصالح المشتركة واحترام السيادة. فقد استطاعت الرياض أن تكون شريكًا موثوقًا لواشنطن، وفي الوقت ذاته حليفًا فاعلًا لبكين، ومخاطبًا محترمًا لموسكو، دون أن تقع في فخ التبعية أو المجازفة بمصالحها العليا.
ولم تكن القمة الصينية الخليجية، التي استضافتها الرياض، إلا مثالًا على هذا التوازن، حيث برزت المملكة كجسر بين الشرق والغرب، بين الطموحات الصينية والنفوذ الغربي، مقدّمة نموذجًا في التنسيق لا التصادم، وفي بناء المصالح لا تصدير الأيديولوجيا.
الدبلوماسية السعودية الجديدة تتميز بثلاث سمات رئيسية:
أولها الهدوء الاستراتيجي، حيث لا تنجر المملكة إلى ردود الفعل، بل تمارس حضورها بوعي وواقعية؛ وثانيها تنويع الشراكات، بحيث لم تعد رهينة لمحور أو مظلة واحدة؛ وثالثها التمسك بالثوابت الوطنية والدينية مع انفتاح على آليات العمل الدولي الجديد. وهذا ما جعلها وجهة موثوقة للقادة، ومنصة حوار للأطراف المختلفة، ومركز قرار في الملفات الحساسة.
وهذا ما يفسر أيضًا قدرة المملكة على تحقيق المصالحة مع إيران، بعد سنوات من التوتر، في خطوة غير متوقعة لكنها مدروسة، جسدت نضجًا دبلوماسيًا يوازن بين الواقعية السياسية والحفاظ على مصالح الأمن القومي. والمفارقة أن هذه المصالحة جاءت بوساطة صينية، مما يعكس انفتاح السعودية على توازنات القوة الجديدة، واستعدادها للعب دور الجسر لا الجدار.
إلى جانب العمل السياسي المباشر، سخّرت المملكة أدوات القوة الناعمة لتعزيز مكانتها الدولية، من خلال استضافة مؤتمرات الحوار الديني والثقافي، والمبادرات الإنسانية، والفعاليات الرياضية الكبرى، مما رسّخ صورتها كدولة منفتحة، ديناميكية، ومتفاعلة مع محيطها الإقليمي والدولي.
وتأتي هذه التحولات في سياق «رؤية السعودية 2030»، التي لم تقتصر على إصلاح الاقتصاد، بل جعلت من السياسة الخارجية أحد أعمدة تجديد الهوية السعودية، وتوسيع نفوذها الدولي، على أسس من التحديث والاعتدال والتنوع. وقد انعكس ذلك في اتساع دائرة اهتمام المملكة لتشمل قضايا مثل تغير المناخ، والأمن الغذائي، والتقنيات المستقبلية، حيث بات يُنظر إلى السعودية بوصفها دولة مبادِرة، ذات رؤية استراتيجية لا تقتصر على مصالحها الضيقة، بل تتسع لمساهمة فاعلة في استقرار النظام الدولي.
من هنا، لم يكن غريبًا أن تتصدّر المملكة واجهة الحوارات العالمية، سواء في مجموعة العشرين أو في المنتديات الأممية، وأن تحظى بثقة متعددة الأطراف في قضايا شديدة الحساسية. فهي لا تسعى لفرض نموذجها، لكنها تعمل على تهيئة الأرضية المشتركة للتفاهم، وهي لا تلهث خلف الانتصارات الرمزية، لكنها تركّز على بناء الثقة والتأثير المستدام.
زيارة الرئيس الأمريكي هي في جوهرها إشادة ضمنية بهذا المسار، وتأكيد على أن الرياض باتت فاعلًا لا يمكن تجاهله في المعادلة العالمية، وأن صوتها حين يُسمع، فهو يحمل وزنًا خاصًا نابعًا من حكمة التجربة، واعتدال الموقف، وثبات المصالح.
لقد انتقلت السعودية من دولة تُستدعى عند الطوارئ، إلى دولة تُستشار في صنع السياسات.
ومن دور ردّ الفعل إلى موقع صانع المبادرات. وهذا الانتقال لم يكن ممكنًا لولا تحولات عميقة في الرؤية والقيادة والبنية الوطنية، وهو ما يدفعنا للقول بثقة: حين تتكلم السعودية، يُصغي العالم، لا لأن العالم مضطر لذلك، بل لأن الرياض باتت تملك ما يُقال، وتعرف متى وكيف تقوله.
** **
د. عبدالعليم غالب نصر مثنى - أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد بجامعة عدن