في معارض الكتب وصالونات بيع الكُتب؛ تتكرر مشاهد طريفة لدرجة حدّ السخرية في بعض الأحيان؛ فمثلاً: زبون يشتري كتابًا فيمده إلى مؤلفه وكأنه يطلب «بركة» من نوع ثقافي؛ يلتقط الكاتب قلمه من فوق الطاولة أو يُخرجه من جيبه بسرعة؛ ويخط جملة مرتجلة يطلقون عليها جوراً «إهداء»؛ وفي حقيقة الأمر أنها ليست «إهداءً» لأن الزبون دفع ثمن الكتاب؛ بل إن كل ما في الأمر هو «توقيع لا أكثر ولا أقل» يحمل بصمة مشاعر المؤلف تجاه المشتري.
وكثيرًا ما نرى في معارض الكتب ازدحامًا عند منصة التواقيع؛ وجلبة تدور حول لحظةٍ من المفترض أنها بالغة الخصوصية بين «الكاتب وقارئه»؛ ولكنها مع الأسف تتحول تدريجيًا إلى عرض مسرحي. يُخيّل إلى البعض أن لحظة توقيع المؤلف على الغلاف تمنح الكتاب «هالة أبدية»؛ في حين أن جوهر العلاقة بين القارئ والنص يضيع بين فلاشات الكاميرات والصخب؛ ليست المسألة في الحبر ولا في الصفحة التي خُصصت لسطور عابرة؛ بل في لحظة الصدق التي ينبغي أن تصاحب التوقيع؛ حين ينبع من روح الكاتب ويصل إلى قلب من يكتب إليه؛ بعيدًا عن الاستعراض وضجيج الطوابير.
فأنا أرى أن الإهداء الحقيقي يُزرع داخل الكتاب؛ وفي صفحة بيضاء نقية يوجّه فيها المؤلف كلماته إلى شخص معيّن أو معنى أكبر يليق بجهده وسهره؛ أو أن المؤلف يُقدم الكتاب هدية للزبون دون ثمن؛ أما ذاك الذي يحدث على عجل وما نشاهده من توقيع فوق الغلاف أو في الصفحة الأولى من الكتاب في أروقة المعارض فهو أقرب ما يكون إلى تحية خاطفة أو توقيع عابر؛ أو ذكرى ثقافية للقارئ؛ أو قُل ما شئت مثل هذا الكلام.
في الحقيقة أن الكاتب هنا لا يقدم نصًا جديدًا ولا يكشف سرًا عن كتابه؛ بل يترك أثر قلمه كإشارة إنسانية «لقد مرّ من هنا»؛ توقيع قد يعني أن المؤلف يعترف بالقرّاء، يقدّرهم، يشاركهم لحظة خاصة؛ لا أكثر ولا أقل.
المشكلة حين تتحول هذه اللحظة البسيطة إلى دعاية مبتذلة؛ طوابير طويلة؛ وعدسات كاميرات؛ ورجال أمن لتنظيم الطوابير؛ ثم تُشاهد مبالغة في تصوير التوقيع كأنه يزيد من قيمة الكتاب أو يحصنه من النسيان؛ وفي النهاية فالنصّ هو الباقي؛ لا الحبر المضاف في ردهة معرض مزدحم.
العجيب في هذه «الأضحوكة» أن بعض القرّاء صاروا يفتخرون بكتاب موقّع من الكاتب أكثر من افتخارهم بفهم محتواه؛ أو على الأقل قراءة الكتاب؛ وكأن التوقيع يمنحهم شرفًا خاصًا؛ رغم أنه لا يُغني عن قراءة كلمة ولا يضيف سطرًا جديدًا للفكرة.
ربما لو تعاملنا مع «توقيع المؤلف» كتعبير إنساني متواضع؛ بلا ضجيج ولا بهرجة؛ لعادت له قيمته البسيطة «لحظة تواصل ثقافي؛ ذكرى سريعة لمعرض الكتاب؛ لا أكثر»، أمّا أن نرفعه إلى مرتبة «الإهداء» أو «الوثيقة المهمة» فتلك هي «الاضحوكة» الحقيقية.
** **
- عبدالجبار الخليوي