إن ما شهدته القصيدة العربية من تحولات بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم حتى اللحظة الراهنة قد تجاوز ما أنجزته القصيدة عبر تاريخها الطويل الموغل في التاريخ، بل إن ذلك قد غيَّر من وجهات النظر حول مفهوم الشعر ومستقبله، وأسهم في طرح أسئلة جوهرية وبنيوية حول مصير الشعر ذاته وجدواه في الحياة، في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، ولا شك أن ثمة أسباباً كثيرة أسهمت في تلك التحولات، يعود بعضها إلى أسباب خارج الشعرية، ويعود بعضها الآخر إلى أسباب داخلية تنبع من البنية الشعرية ذاتها، وكل تلك الأسباب هي أسباب موضوعية ترجع إلى طبيعة الحياة نفسها الخاضعة للتطور والتجدد، من دون أن ننكر حقيقة باتت مسلَّمة من المسلَّمات، تتمثَّل في أن عجلة تطور الحياة لاسيما ما شهدناه مع بدايات الألفية الثالثة الجديد من تطور حضاري وتقني، يتجاوز ما أنجزته البشرية عبر تاريخها الطويل، والسؤال المهم هنا، كيف انعكس ذلك على الشعر؟
لو نظرنا إلى التحول الأهم التي شهدته القصيدة في عصورها التراثية القديمة لأمكننا القول إنه صراع داخلي انحصر في شكل بناء القصيدة، أو ما عُرف بعمود الشعر الذي أخلص لفترات طويلة لبناء موحّد ينطلق من الطلل أو النسيب إلى أغراض القصيدة الأخرى، ولعل في قولة المتنبي: (إِذا كانَ مَدحٌ فَالنَسيبُ المُقَدَّمُ) ما يشير إلى ميل القصيدة إلى القواعد الفنية التي باتت تشهد آفاقاً عبر تحطيم تلك القواعد التي وضعت في معايير كتلك التي شهدناها عند قدامة ابن جعفر في نقد الشعر، وابن طباطبا في عيار الشعر، وقد تمثَّل كل ذلك في الخروج عن الأشكال البنائية التي استقرت عليها الذائقة الشعرية، وقد ولَّد الخروج عليها صراعاً نقدياً أطلق عليه الخصومة بين القدماء والمحدثين الذي تمثَّلت ذروته عند أبي نواس في الخروج على البناء الطللي وعند أبي تمام في طرق صوغ اللغة الشعرية بحد ذاتها.
وربما كان التحول التالي الجوهري الذي شهدته القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين من الشكل التقليدي إلى قصيدة التفعيلة هو التحول الأهم في بنية القصيدة من ناحية الشكل والبناء الفني وهو ما برز عبر صراعات ثنائية ما زالت بقاياها حتى اللحظة الراهنة وقد تمثَّلت في ثنائيات كثيرة لعل من أبرزها ثنائيات الأصالة والمعاصرة، والاتباع والإبدال، والثابت والمتحول، وغيرها كثير، حصرت الصراع في شكل القصيدة وانحازت بشكل كلي إلى النمط الجديد ودافعت عنه بشراسة، في حين توقف الطرف الآخر عند بناء القصيدة التراثي ورأى في تجاوزه خروجاً عن الشعر والهوية الشعرية، ولا شك أن حدة هذا الصراع قد خفت كثيراً في الآونة الأخيرة، وهو ما سمح بتعايش أشكال القصيدة الثلاثة ( قصيدة الشطرين وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر)، وباتت هواجس الشعرية وتحولاتها تنحصر في البحث عن آفاق جديدة للشعر، أي آفاق تنطلق من التجديد البنيوي في بنائية القصيدة وهو ما سمح بحضور تحولات وآفاق جديدة يمكننا تلخيصها بثلاثة تحولات بارزة ومتداخلة أحياناً في لحظتها التاريخية.
أفق التعايش الأجناسي
لعل من أبرز حصاد الصراع بين الأشكال الأدبية، لاسيما بين الرواية والشعر ظهور مقولات كان من أبرزها مقولة انتهاء عصر الشعر وولادة عصر الرواية، أو الرواية ديوان العرب بديلاً للمقولة المأثورة: الشعر ديوان العرب، وإذا كنا في لحظتنا الراهنة بتنا نشهد خفوتاً لمثل هذه المقولات والصراعات، فإن من أبرز ما ولَّده ذلك الصراع الأدبي إنتاجات أدبية ونقدية ضمن ما يُعرف بتداخل الأجناس الأدبية في بناء القصيدة العربية المعاصرة، وربما كان هذا من العوامل المهمة التي رسخت حالة التعايش بين الأجناس من دون طرد واحد منها للآخر من جنة الخلود أو تمثيل العصر، وهذا ما فتح أفقاً جديداً لانتقال الشعر للحالة السردية، وفتح مسارات فنية جديدة على صعيد بنية القصيدة برز من خلال التقنيات الفنية والتكتيكات التعبيرية، يُضاف إليها مجموعة من التقنيات المستمدة من الفنون البصرية كالتقطيع السينمائي والتشكيلات البصرية، فبرزت القصائد المطولة التي تصل إلى حجم ديوان شعري كامل وهذا ما برز لدى شعراء كثر يأتي في مقدمتهم محمود درويش في جداريته الشهيرة.
من أفق المطولات إلى أفق الاختزال الهايكو العربي
قد لا نملك إحصاءات دقيقة لأشكال المجموعات أو القصائد الشعرية المطولة التي راجت بكثرة حتى نهايات القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن ثمة مؤشرات تدعو إلى الاطمئنان عند القول إن العشرين سنة الأخيرة قد شهدت تحولاً مهماً في مشهد القصيدة العربية الحديثة، بات سمة لا تغيب عن عين الناقد المنصف، هو ميل القصيدة نحول الاختزال، والاختصار، ضمن ما بات يعرف بقصيدة الومضة التي اتخذت أشكالاً متعددة لعل من آخر تحولاتها قصيدة الهايكو التي لاقت صدىً مهماً لدى الشعراء العرب، وهي قصيدة اتخذت شكلاً معقداً لدى روادها في اليابان، ولكنها عندما انتقلت إلى أوروبا أعيد تقنينها ووضع قواعد لها فعادت لليابان بشكلها المُحدّث، وانتقلت عبر الترجمة إلى العربية فتلقفها عدد كبير من شعرائنا ووجدوا فيها ضالتهم، فلا شك أن روح العصر المتسارعة وهجر العرب للقراءة لاسيما بشكلها التقليدي ووجود المنصات الإلكترونية، كل ذلك أدى إلى رواج هذا النمط واتخاذه وسيلة للتعبير، على ما في هذا النمط من ردة إلى القواعد الضابطة للشعر التي تخلت عنها الحداثة الشعرية العربية في النصف الثاني من القرن المنصرم، سواء من حيث موضوعات القصيدة أو بنيتها التشكيلية أو صدمة النهاية التي تفاجئ المتلقي، من هنا بتنا نشهد تنظيرات لوضع حدود حاسمة بين هذا النمط الشعري وبين أقرب الأنماط المقرّبة إليه وهو قصيدة الومضة، ولكن للأسف كانت في مجملها تنظيرات للتفريق بين هذين النمطين، فعدد الأسطر أو النهاية الصادمة كلها كانت من مقتضيات قصيدة الومضة، وربما تسهم القواعد الحازمة في كثير من الأحيان من الحد من قدراته الشعرية من ناحية، وفي القدرة على إقناع المتلقين والنقاد بأنها جنس مستقل قادر على إبعاد أنصاف الموهبين من ارتياد منزل الشعر العظيم، ومن هنا يمكن القول إن ميل القصيدة إلى عناصر الطبيعة واستنفاد عناصرها في تشكيل الموضوعات هو تحجيم وتقليد لتجارب قد لا تتقارب في خصوصيتها مع خصوصية التجربة الشعرية العربية، وربما هذا يدعو إلى تبني وجهة نظر الحداثة الشعرية التي ارتبط مفهوم الشعر لديها بتحطيم السائد والخروج بالشعر إلى فضاءات جديدة ومبتكرة، وربما هذا لا يتحقق بالتخلي عن كلاسيكية وقواعد صارمة للشعر واستبدالها بكلاسيكية أخرى بقواعد بديلة، وهذا لا يعني رفض هذا الشكل الفني للقصيدة أو مواجهته، ولكن يمكن إنتاج قصيدة الهايكو العربية التي تستفيمن التجارب العالمية في كتابتها من دون التخلي عن خصوصيتنا في إنتاجها.
أفق شعرية الذكاء الاصطناعي من الاستعارة التي نحيا بها إلى الشات جي بي تي
لعل من أهم ما أنتجه التطور التقني الهائل في عصرنا، ما سُمي بالقصيدة التفاعلية أو القصيدة التي تستفيد من التقنيات والبرمجيات التي يبدو أنها ستكون عنواناً مهماً في المستقبل القريب، وهذا بدوره ولّد كثيراً من التساؤلات عن آفاق جديدة في الشعرية تتمثَّل بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي في إنتاجات أدبية وشعرية أو في توليد علاقات لغوية جديدة تستثمر في بنائية القصيدة وتردم هوة الضعف الإبداعي لدى كثير ممن يعتمدون عليه، وهذا يعيدنا للمقارنة بين ما طرحه مؤلفاً كتاب الاستعارات التي نحيا بها، لجورج لاكوف ومارك جونسون اللذان حاولا رصد العلاقة بين العقل واللغة، عندما ذهبا إلى أن الاستعارات ليست زينة بلاغية، بل أنظمة إدراكية نتعامل من خلالها مع العالم، ونفهم بوساطتها مفاهيم مجردة مثل الزمن والسلطة والعلاقات الاجتماعية، لقد حاول المؤلفان على نحو غير مسبوق كشف خفايا العلاقة بين اللغة والتفكير، مما أحدث ثورة من خلال هذا الطرح الجديد، فتفكيرنا اليومي مشبع بالاستعارات التي تنبع من تجربتنا وتبني وعينا وتوجه سلوكنا، هذا ما طرحاه في عصر لم تكن الإنترنت فيه قد أخذت حيزها في التواصل البشري، مما يجعل من طرحهما السابق في عصر الإنترنت الحالي جزءاً من الماضي، إذ بتنا نشهد تحولاً تكنولوجياً في عصر الذكاء الاصطناعي الذي أصبح فيه توليد المعاني وإنتاجها جزءاً من أعمال خوارزمية تعمل على إنتاج الاستعارات وإعادة تشكيلها وهذا ما حذَّر منه لاكوف وجنسون، أي من إعادة تشكيل الاستعارات بسطوتها الخفية، إننا أمام عصر السياسات اللغوية للآلات التي بدأت تقتحم عالم الإبداع من خلال الاستعانة بمواقع عدة في إنتاج الاستعارات، ربما يكون أبرزها حالياً الشات جي بي تي الذي بات يقدم بنى استعارية تحمل سمات بشرية، ولكنها في جوهرها استعارات مبرمجة، تسهم في تطويع تفكير المستخدم من دون أن يشعر، إنها أفق انتقال المعنى من العقل البشري إلى توليد نماذج لغوية كثيرة في عالم الشات جي بي تي، إننا أمام هندسة جديدة للوعي اللغوي، من هنا فإن العودة لكتاب لاكوف وجنسون رغما كلاسيكيتها في عصر الذكاء الاصطناعي قيد يعيد فهمنا إلى مساره الصحيح في مقاومة إنتاج أنماط لغتنا بشكل غير واع، فتأتي أهمية مساءلة هذه الأنماط التي بدأت تتشكل في فضاء القصيدة الإلكترونية، وفي فضاءات توظيف الذكاء الاصطناعي في بناء كثير من الشعريات التي تدعي تشكيل أنماط جديدة تسثمر التقنيات الراهنة في توليد تيارات وأشكال تعبيرية تدعي فتح آفاق جديدة في عالم الشعريات المستقبلية.
** **
- د. شيمة محمد الشمري