كم هو ثقيلٌ تأبين والدي، لم يخطر ببالي يوماً أن تتحوّل سيرته إلى نص، أو أن أجد نفسي مضطرة لصياغة وداعٍ نهائي لرجلٍ كان حاضراً في كل تفاصيل حياتي، إلا أني لا أكتب عنه لأنه غاب، بل لأن حضوره كان أكبر من أن يُترك للصمت. فكيف أبدأ الكتابة عنك يا أبي؟
لم يكن والدي ممن يعرّفون أنفسهم عبر ما قدموا، بل كان من أولئك الذين تمر خطواتهم خفيفة، تاركاً خلفه آثاراً شاهدة على نبل وسمو أخلاقه. عاش كما يعيش الكبار بصمت، أولئك الذين يجعلون من فعل الخير عادة يومية، لا ينتظرون عليها مناسبة أو شكوراً، بل يفعلون الخير لأنه واجب ينبع من القلب. ما كان يراه الناس بذلاً، كان هو يراه واجباً مقدساً، وما بدا لهم أنه تضحية، كان بالنسبة له طمأنينة يسكبها بسخاء في حياة من حوله. لم يكن يُرى بسهولة بين الناس، لكنه كان حاضراً دائماً، فإذا بحثتَ عن اليد التي أسندت، والعين التي لاحظت، والقلب الذي اهتم، وجدت والدي هناك؛ يناضلُ بنبلٍ وصبر، ويصنع من تعب الأيام حضناً يتسع للجميع.
عدا عن أنه وفى بعهد الأبوة كما ينبغي، كان ينهض باكراً ليس فقط ليكسب قوت يومه، بل ليضمن أننا لن نعرف الحاجة ولن نعيش القلق. لم يحدثنا كثيراً عن المحبة، لكنه كان يمنحها كل يومٍ بصمت عميق لا يعرف الاستعراض أو التفاخر. أطعمنا من راحته، وسقانا من جهده وتعبه، حتى شابت الأيام فيه وظلّ عيشنا رغيداً بفضله.
نشأتُ في بيته كما تنشأ الأبنةُ تحت ظلّ شجرةٍ عالية لا تَرى حجمها، لكنها تنعمُ بظلّها الوارف، وتحسبُه من طبائعِ الحياة. لا تشعُر كم تحميها، حتى تُجبرها الحياة على الوقوف تحت الشمس. كلما اشتدّت حرارة الأيام، كان في وجوده بردٌ لا يُفسَّر، حتى إذا ما ترنّحت تلك الشجرة عَرفت كم كُنت صغيرةً أمام اتساع ظلّه، وكم كُنت آمنةً في كنفه دون أن أشعر. والدي لم يكن مجرد شخصٍ أحبه.. بل نقطة ارتكازٍ في حياتي أجهل حجمها حتى اُنتزع حضورها، كل شيء بعده صار مائلاً، وكل محاولة للتماسك تشبه الوقوف على قدمٍ واحدة في مهب ريح لا تهدأ.
حين جاء المرض، لم تكن تجربةً مريرة بقدر ما كانت سفراً إنسانياً عظيماً، علّمني فيه والدي معاني الرضا، ومفردات الصبر حتى في أشدّ لحظات الألم. بدأت ملامحُ المرض تظهر عليه منذ سنوات، وتوالت التحديات الصحية شيئاً فشيئاً، حتى وجد نفسه - ووجدتُ نفسي معه- في طريقٍ طويل، ليس فيه شفاء، ولكنه محاطٌ بلطف الله ورعايته.
سنواتٌ من المعاناة، تنقلّنا فيها بين المستشفيات، والعيادات، والغرف البيضاء، لكن روحه لم تُهزم، وصوته ما تراجع عن الحمد، ونظرته ما فقدت الحنان. كنتُ أراه يتآكلُ بصمت، كأن الزمن بدأ يسير عليه وحده بسرعة مختلفة، وجهه الذي كان يسبق الجميع في الحضور، صار مُتعباً من اللحاق بالأنفاس، وصوته الذي كان يملأ البيت صار لا يصل إلا همساً. ثم.. وبعد أن أنهكته الرحلة الطويلة لم يمُت فجأة، بل غاب كما تغيب النجوم في آخرِ الليل: بصمتٍ، ووقار، وترك في السماء أثراً لا يُنسى.
واليوم، حين أسترجع تفاصيل تلك الرحلة، لا أراها مأساة.. بل أراها مدرسة. مدرسة علّمني فيها والدي دروساً لم أكن لأفهمها في أيام العافية: علّمني أن الحبّ فعلٌ لا يطلُب راحة، وأن القوة الحقيقية لا تحتاج إلى صوتٍ مرتفع، وأن أعظم وداع.. هو الذي يُصاغ في حضرة الصبر، لا في ضجيج الانهيار.
رحلة مرضه كانت جزءاً من تاريخه، من بطولته الخاصة، وأنا كنتُ شاهدةً على رجلٍ قاتل بكرامة، ومضى تاركاً في قلبي حباً لا تبرؤهُ الأيام. والآن أدرك تماماً أني لم أرافق أباً مريضاً، بل رافقتُ إرثاً إنسانياً وهو يتوارى عن العيون. رأيت رجلاً ينهي فصله الأخير بوقارٍ يليق بمن عاش على مهل، ومضى كما جاء: ثقيلاً في حضوره، خفيفاً في خطاه، كبيراً حتى وهو يُغلق الصفحة الأخيرة.
هو ذهب.. وأنا ما زلت هنا، أحمل اسمه في قلبي كما يحمل الجندي آخر وسامٍ ناله في ساحة القتال.
ولكني منذ رحل وأنا يمزّقني الفراغ.. لأن وجوده كان ثقلاً جميلاً، وزناً يعطي للأيام معنى، وللمكان احتراماً، ولي إحساساً بأن هناك من يُمسك العالم لأجلي دون أن أعلم. أحاول أن أرتّب مواعيدي، أعود إلى عملي، أتحدثُ كما يجب، لكن داخلي لا يزال يفتقدُ لشيءٍ لا يُوصف.
كان وجهه هو الصفحة الأولى من يومي، وها أنا الآن أفتح الكتاب ولا أجد إلا البياض. يمزقني هذا البياض، تمزقني الزاوية التي كان يجلس فيها، والنظارة التي لم يعد يرتديها، والباب الذي لا يُفتح على وجهه، والأسئلة التي لم أعد أرغب في إجابتها، لأن الإجابة الأهم، قد غابت معه.
أفتقدك يا أبي..
ما زلت أفتح عيني كل صباح كأن موعداً ما ينتظرني، كأن عليّ أن أطمئن عليك أولاً.. لأستيقظ تماماً على فراغٍ لا يُملأ، وعلى يدٍ لا أعرف أين أضعها بعد أن غابت يدك.. ثم أختنق بحسرتي. أخاف يا أبي أن تمضي الأيام وأعتاد الغياب، أن تصبح ذكراك جزءاً من الترتيب الجديد للعالم، وأنا لا أريد عالماً لا تكون فيه! كل شيءٍ من بعدك ناقص، والفكرة التي تفتك بي حقاً هي أنني مضطرة لأن أكمل، دونك.
لأن روحي لم ترتو منك بعد.. كنت أتأملك على سرير العناية المركزة وأشعر من فرط الحب أني لا أكتفي، أتحدث إليك وأشعر أني لا أقول كلّ شيء، أراك متعباً وأتمنى أن أهبك أيامي كلها. كنت أريدك للعمر كلّه، أن تشهد بقية حياتي، نجاحاتي، ضعفي، فرحي، وحتى شتاتي. كنت أظنك ستبقى الركن الذي أعود إليه مهما بعُدت، كنت أتجه إليك كل يومٍ بكل ما أحب، والآن أُمسك هذا الحب بين يديّ ولا جهة أضعه فيها.. فأرفعه إلى الله.
أفتقدك يا أبي..
لأنك كنت هنا بطريقةٍ لا تُعوّض، ولا تُشبه أحداً ولأني كنت أراك في كل يوم، ولم يخطر لي أن يوماً سيأتي فأبحث عنك ولا أراك، لأن كل تفصيلٍ صغير في حياتي كان يستند إليك، حتى لو لم أكن أقول ذلك، كنت تدور في قلبي طوال اليوم، كما تدور الشمس في السماء دون أن نرفع رؤوسنا لها كل مرة. ما زلتُ أرتّب ساعتي كما لو أنني سأراك، أفكّر في الوقت وكأنك لا تزال هنا، أحتفظ بعاداتٍ كانت تدور حولك، ليس لأني لا أقبل غيابك، بل لأن اليوم لم يعد يوماً كاملاً بدونك ولا الشعور شعوراً مألوفاً، ولا أنا.. كما كنت وأنا أعيش في ظلّك. لم تكن يومي فقط، كنتَ نظام حياتي، بل كنت صديقي ورفيق أيامي.
أفتقدك يا أبي..
أفتقد خوفي عليك.. كنت أعيش منه أكثر مما أتعب. أفتقد قلقي اليومي، ذلك الشعور الذي علّمني أن أكون حيّة بمن أحب، أفتقدك في كل التفاصيل. أفتقد ترتيب أدويتك، تسجيل قراءاتك، مراجعة نتائج تحاليلك والبحث عن أي علامة تحسُّن كمن يطارد خيط نورٍ في نفق طويل.
أفتقد اقتناء الأشياء التي قد تُبهجك أو تُريحك. أفتقد أن أضحك معك، وأفتقد أن أضحك لأجلك، حين أحاول أن أُخفف شيئاً من تعبك. أفتقد سؤالي لك إن أردت أن تشرب قهوتك أو أن تغيّر جلستك أو أن أُطفئ الضوء قليلاً. أفتقد أن نُشاهد معاً ما تحب، أن أقرأ القرآن بصوتي، فتُكمل خلفي بصوتٍ خافت. أفتقد أن أناديك ثم تنظر إليّ.. فيطمئن قلبي.
كان اهتمامي بك طقسي اليومي، وقلقي عليك جزءاً من هويتي، والآن كل شيء صامت، إلا هذا الفراغ الذي يضج بافتقادك.
أفتقدك يا أبي..
أفتقد عينيك، النافذتين اللتين كنت أستدلّ بهما على وجودك ومقاومتك، والتي حين أغمضتهما ذات مساء أظلمت الدنيا في عيني. أفتقد أن أمرّر أصابعي على ذقنك كما كنت أفعل كل يوم، أن ألمس ملامحك وأطمئن بأنك هنا، أن أمارس طقوسي الصغيرة التي كانت تريح قلبي وتسكّن خوفي.
يخيّل لي وجهك.. ترتسم ملامحك في ذهني بوضوحٍ يوجع، كأنك جالس أمامي، تنظر إليّ كما كنت تفعل دائماً، ثم تصعقني الحقيقة: أن ذلك كلّه توارى خلف التراب، فأشعر أن كل أحزان الأرض قد استقرّت في قلبي، وكأنك كنت السدّ الذي يحجز وجعي، فلما غبت، انفجر كل شيء دفعة واحدة.
أفتقدك يا أبي.. أفتقدك بشدّة
ولا أتحمّل فكرة أنني لن أراك مجدداً، كل ما فيّ يرفضها، لا يصدقها، يتعامل معها على أنها غياب مؤقت.. غيبوبة طويلة.. زيارة طالت.. لكنك ستعود، ولو للحظة.. ترعبني فكرة أنك لست هنا، وأنني لا أعلم أين تكون الآن، ولا ما يحدث لك.. ولا إن كنت نائماً بسلام، أم مشتاقاً كما أنا؟
ظننت بسذاجة أني قادرة على حمايتك، أن حضوري بجانبك سيمنحك حصانة من الألم، وأن تتبعي لكل تفصيل ستكفي لصدّ المرض، ظننت أن الحب وحده سينقذك، لكنني هُزمت يا أبي، هزمني عجز الطب وهزمتني قسوة النهاية، وبقيت أمام رحيلك عاجزة إلا من دموعٍ تأخرت، وقلبٍ لا يغفر لنفسه أنه لم يستطع أن يبقيك. كل ما أخشاه أن المرض سبقني إليك، وأن جهدي جاء متأخراً، وأنني رغم كل الحب، لم أكن دِرعك كما أردت.
إن كان في قلبي موضعٌ للندم، فهو أني لم أقدر أن أصدّ الموت عنك، وإني رغم كل شيء ما زلت أخشى أنك متّ وفي نفسك نداءٌ لم أجبه، أو أن هناك لحظة ألم مرّت بك ولم أخففها عنك، أخشى أنك رحلت وفي قلبي أشياء كثيرة لم أقلها، وفي يدي حنانٌ لم يُمدّ، وفي وقتي لحظات كنت أود أن أضيفها لعُمرك.
سامحني يا أبي.. فقد قاتلت لأجلك كمن يُراهن على معجزة، وما كنت أعرف أن الحب وحده، لا يردّ القدر.
سلامٌ عليك في مرقدك، وسلامٌ على صورتك في قلبي، وسلامٌ على الأيام التي عشتها في ظلّك.. وإن مضيت، فما زلت بين أضلعي، فقد زرعت داخلي حضوراً لا يُهزم.. وكتبت فيني شيئاً، لا يمحوه الموت.
رحمك الله كما كنت لنا رحيماً، ووسّع لك كما وسّعت علينا، وأبدلك عن كل تعبك نعيماً لا يفتر، ومكاناً لا خوف فيه، ولا مرض، ولا وداع.. حتى ألقاك.
** **
- الجوهرة بنت عبدالرحمن بن صالح الشثري