ليست كل ورقة دستور مجرّد وثيقة رسمية تنام في أرشيف الدولة. بعضها مكتوب بالحبر، وبعضها مكتوب بالدم. بعضها صيغ في هدوء مكاتب مشرعة النوافذ على القانون، وبعضها وُلد بين رائحة البارود وصوت الحشود.
الدستور، في جوهره، ليس إلا مرآة لما يؤمن به شعب، وما يخشاه، وما يحلم ببلوغه.
في قاعات المحاكم، حيث تتردد أصداء القوانين، وفي الساحات العامة التي ترفرف فيها الأعلام الدستورية، تنسج حكايات إنسانية خالدة.
الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية، بل سيرة أمة مكتوبة بحبر المفكرين، ودماء الأحرار، وأحلام الشعوب. إنه مرآة تعكس إيمان الأمم، ومخاوفها، وطموحاتها، في نسيج نصوص يمتزج فيها التاريخ بالمستقبل.
بدأت ملحمة الدساتير قبل آلاف السنين، حين نقش حمورابي قوانينه على ألواح الطين لتنظم حياة بابل. لكن تلك القوانين، رغم دقتها، لم تكن دساتير بالمعنى الحديث، إذ لم تتناول توزيع السلطات أو شكل الحكم.
اليوم، تتجاوز الدساتير تنظيم المجتمعات البشرية لتحتضن المفاهيم: في الاتحاد الأوروبي، يُعترف بـ»الحق في النسيان الرقمي» ضمن تشريعات حماية البيانات (GDPR)، وفي إسبانيا يُعتبر حقًا دستوريًا ضمنيًا يحمي الخصوصية. في الإكوادور، يمنح الدستور «الأرض الأم» حقوقًا قانونية ككائن حي، بينما يُعد نهر وانجانوي في نيوزيلندا كيانًا قانونيًا. وفي إستونيا، كُرّس الإنترنت منذ عام 2000 كحق دستوري، ليكتب فصلاً جديدًا في سجل الحقوق.
تعود جذور الدساتير إلى المدن الإغريقية، حيث نظمت القوانين العرفية العلاقة بين السلطة والمواطن. في أثينا عام 594 ق.م، وضع صولون أسسًا قانونية شكلت نواة الدساتير المكتوبة. في روما، تطورت مؤسسات الدولة عبر مجلس الشيوخ، لتتشكل ملامح نظام دستوري شفهي. أما شريعة حمورابي، فكانت مجموعة قوانين ممنهجة لكنها لم ترقَ إلى مستوى الدساتير لعدم تنظيمها شكل الدولة.
يُعد دستور سان مارينو، الصادر عام 1600 ومُعدّل عبر القرون، أقدم دستور مكتوب لا يزال نافذًا، مع اعتماد «القوانين الأساسية» المحدثة عام 1974. أما «ميثاق ماندن» في مملكة مالي بالقرن الثالث عشر، فهو أقدم دستور شفهي، نُقل عبر رواة القصص.
في العالم الإسلامي، شكل «عهد الأمان» التونسي عام 1861 أول محاولة دستورية، تلاه «القانون الأساسي» العثماني عام 1876، رغم تعثرهما. ومع دستور الولايات المتحدة عام 1787، بدأ عصر الدساتير الحديثة، حيث صيغت وثيقة استثنائية لا تزال سارية مع 27 تعديلاً، تبعتها بولندا وفرنسا عام 1791.
تنوعت أساليب صياغة الدساتير: «المنحة»، كما في فرنسا 1814 واليابان 1889، حيث يمنح الحاكم دستورًا؛ «التعاقد» بين الحاكم والمحكوم كما في المغرب 2011؛ «الجمعية التأسيسية»، كما في الولايات المتحدة؛ و»الاستفتاء الشعبي»، كما في بولندا. وتشير دراسات جامعة برينستون إلى أن 42 % من دساتير العالم بين 1975 و2003 كُتبت عبر برلمانات منتخبة، و17 % عبر جمعيات تأسيسية.
في أيسلندا عام 2011-2012، ساهم المواطنون عبر وسائل التواصل (منصة (X في صياغة مسودة دستورية، لكنها لم تُعتمد بسبب معارضة البرلمان. في سويسرا، يتيح نظام الاستفتاءات الشعبية إعادة النظر في القوانين، وإن لم يكن ذلك نصًا دستوريًا صريحًا، ليصبح النظام لوحة فسيفساء متجددة.
في بليز(هندوراس البريطانية سابقاً) ، يُعد خروف البحر النادر «مواطنًا» دستوريًا، تحميه المادة 36. في كولومبيا، يضمن الدستور منذ 1997 «الموت الكريم» كحق أساسي، ليصبح القانون ضامنًا لكرامة النهاية. وفي جنوب إفريقيا، يضمن دستور 1996 «الحق في المياه»، بينما يكرس الدستور البرتغالي عام 1976 «الحق في الهواء النظيف»، معبرًا عن قيم بيئية وإنسانية.
وبعض الدساتير خلقت استثناءات: في ليختنشتاين، يحق للأمير رفض أي قانون. في إثيوبيا، يضمن الدستور حق الشعوب في الانفصال. في بوتان، يُعد «السعادة الوطنية الإجمالية» مؤشرًا للتنمية. في الهند، يُعد الدستور الأطول عالميًا بـ448 مادة. وفي اليابان، تنبذ المادة 9 الحرب نهائيًا. أما موناكو، فدستورها من الأقصر، لكنه يحد من نقل الجنسية عبر النساء.
في كوريا الشمالية، حيث يضمن الدستور نظريًا حقوقًا واسعة، لكن الواقع يناقضها تمامًا. في إسرائيل، يثير «قانون القومية» 2018 جدلاً، لكنه ليس جزءًا من دستور مكتوب، إذ تعتمد إسرائيل قوانين أساسية. في أوكرانيا، تمنع المادة 20 الأحزاب التي تنكر وجود الدولة، كأن الدستور يحمل ذاكرة جروحها.
توسعت الدساتير لتشمل حقوقًا جديدة: السعادة في بوتان، الإنترنت في إستونيا، الخصوصية الجينية في أوروبا، التعليم المجاني في كوبا، والبيئة النظيفة في جنوب إفريقيا. وفي الإكوادور، تُعد الطبيعة صاحبة حقوق قانونية، في تحول يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان وبيئته.
لم يغب الدين عن الدساتير. في الدانمارك والنرويج، تُعد الكنيسة اللوثرية رمزًا وطنيًا. في إسبانيا، تُحمى الكاثوليكية. في العالم الإسلامي، تنص 18 من 20 دولة على الإسلام كدين رسمي، مع اختلاف في اعتبار الشريعة مصدرًا رئيسيًا أو جزئيًا. دول كفرنسا وتركيا تتبنى العلمانية، لكن القيم الدينية تظل حاضرة، الدول العربية أسمته (دستور) نسبة للفارسية دست: سلطة، تور: نظام، باستثناء المملكة العربية السعودية التي فضلت استخدام اللغة العربية واعتمدت مجموعة قواعد تنظيمية تستند الى الشريعة الاسلامية تحت مسمى (النظام الأساسي للحكم).
الدساتير ليست نصوصًا جامدة، بل كائنات حية تنزف عندما تُنتهك، وقد تولد من جديد، كما في جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد. إنها تشبه الشعوب: تتغير، تنقلب إن ضاقت، وتُقدَّس إن عبرت عن وجدانها. أجمل الدساتير ليس المطبوع على ورق مصقول، بل المحفور في الضمير، حيث لا يحتاج إلى شرطي ليُطبَّق.
فلا تسأل: «ما هو دستور هذه الأمة؟»، بل: «كيف كُتب؟ ولمن؟ وبأي نية؟» ففي هذه الأسئلة يكمن الفرق بين دستور يُحفظ في درج، وآخر ينبض في الوجدان.
** **
- أحمد الفاضل