أمرته على عجل:
اكتب قصة قصيرة جدًا بهذه المواصفات:
- أسلوب رصين يشبه أسلوب كاتب متمرس.
- تبدو إنسانية جدًا دون احتمال ضئيل لتدخل الذكاء الاصطناعي.
- تجسد معاناة امرأة في الخمسين من الوحدة.
- رمزية، عميقة، محزنة، تلامس القلوب، وقد يبكي من يقرأها.
فكانت النتيجة صادمة، وكتب في عدة ثوان:
«كرسيّ خامس»
أعدّت مائدة لأربعة: ابنها، ابنته، زوجها، وطفلتها التي ماتت رضيعة.
ثم جلست على الكرسي الخامس.
لا أحد يأتي، ولا أحد يفتقدها.
كل ليلة تمسح الصحون، وتعيد ترتيب الكؤوس، وتردد في نفسها:
«أنا هنا، لكن لا أحد يتذكّر أني نجوت.»
أمرته مرة أخرى: اكتبها بدلالات رمزية أوسع، فكتب:
«ساعة رملية»
في بيتها القديم، تعدّ فناجين القهوة لزوارٍ لا يأتون.
الساعة الرملية على الرف تنقلب دون أن تمسها يد.
المرآة تعكس ظلًّا لا أحد له.
ابنها لم يتصل، زوجها مات قبل عشرين خيبة، وابنتها تسكن مدينة لا بريد لها.
تتحدث إلى الصمت، فيردّ صوتها.
حين قرأت النصين قلت في نفسي: هذا الخارق الرقمي يتحدانا! هل يعقل أننا نقف على عتبة عصر جديد حيث لا ينفرد الإنسان وحده بالكلمة، بل يشاركه فيها «ذكاء» صُنع من عدد لا محدود من الخوارزميات والشيفرات والبيانات؟ وهل يمكن أن يقترب الذكاء الاصطناعي من اقتراف الشعر مثلًا، فيما لو غذي بملايين القصائد، ودُرّب على البحور والأوزان والتفعيلات، ثم قيل له: أكمل على غرار الشطر التالي: هل غادر الشعراء من متردم..
هل يمكن أن تكتب الآلة أدبًا حقيقيًا؟ وهل تحاكي الأديب وتشبهه تمامًا؟ وهل تستطيع تقليد مشاعر لا تمتلكها؟
بعد قراءة النصين، تعجبت في لحظة من قدرة الذكاء الاصطناعي أن يكتب بهذا الوجع، وهذه الحساسية، وهو شبكة صناعية عصبية دون تجارب ولا وعي ولا إدراك، لكني أحسست بعدها مباشرة بالارتباك، فشيء ما يشعرني بالبرود، وبأن في النص جزءًا مفقودًا، أو كأني قرأته مرات كثيرة قبل هذه المرة، إحساس الدهشة معدوم تمامًا، والفجوة بيني والنصين تكبر بسرعة فائقة، نسيتهما بمجرد أن انتهيت، ولم أتعلق بهما أبدًا ، ولا أثر لندبة في قلبي، وثمة شعور غامض وغير مريح اعتراني يشبه النظر إلى صورة رقمية للوحة، لامعة وجميلة ومتقنة، لكنها النسخة وليست الأصل، دون رائحة، ودون روح، ودون أثر.
حينها تذكرت شعوري المغاير حين قرأت أول مرة أقصر قصة قصيرة جدًا، القصة التي كتبها «إرنست همنغواي» في ست كلمات فقط:
For sale: baby shoes, never worn.»»
«للبيع، حذاء طفل لم يلبس قط»
ومنذ أن كتبها في 1925م، وهي تحتفظ بروح الألم، وطعم الخيبة، وصوت الحزن، وأثر الجرح، الذي يغور ويُنكأ ويتسع ويتجدد وينفذ، مع كل قراءة أخرى، ست كلمات فقط، لكنها ترتطم في صدري كل مرة، وتفتح قبرًا كبيرًا في رأسي مع كل مرة، وتطعنني بقوة بعد كل مرة.
وهنا، يتضح الفارق الكبير بين القلب والآلة، وبين الذكاء الاصطناعي والإنسان، فالوجع الحقيقي لا يمكن أن تتقنه الآلة، لأنها تقلده ولا تعيشه، فهي لا تضحك أو تبكي، ولا تحلم أو تيأس، ولا تحيا أو تموت! ولا تعرف الشك، ولا تؤمن باليقين، تفتقد رجفة الحب، وقلق الفقد، وغربة المشاعر وغرابتها، ليس لها ضوء ينطفئ فجأة، ولم تجرب الخسارات، ولم تُفجع بالهزائم، آلة معقدة، من طبقات حسابية، واحتمالات، ومعاملات، ومدخلات، دُربت مليارات المرات؛ كي تصبح بارعة في تنبؤ ما نبغي، وتوقع ما نريد.
ومع هذا: وبرغم ما بدا لي من بون شاسع بين النص البشري ونص الآلة تساءلت: ما مستقبل ما يكتبه الإنسان في حضرة ما تحاكيه الآلة؟ وما مصير الأدب في زمن يكتب فيه الذكاء؟
إننا ولو لمسنا البرد في نصوص الخوارزميات الباهتة، فلا يمكننا غض الطرف عن آمال كثيرة أشرعها الذكاء الاصطناعي للأدب والأديب: أدوات منظمة، ومحرك بحث يفهمك من كلمة، ومساعد يحرر وينقح ويراجع، ومترجم فوري يطرق أبوابًا للغات أخرى، ومراجع تضيء الطريق، ومقترحات تبني آفاقًا جديدة، وتقنيات تفاعلية قد تدمج السرد بالصورة، وتستنطق المرويات، وتعيد رسم نص قديم على شكل أدب حي متعدد الوسائط، وغيرها مما قد يُمكّن الأديب، ويفتح بعدًا جريئًا آخر لأفكاره وتأملاته.
وأمام هذا الواقع الجديد، المفروض حتما لا محالة، يقف الأديب أمام سبيلين: أن يهاب ويرفض ويغلق الأبواب، أو أن ينظر ويتعلم ويحاور ويستثمر، مدركًا أن ما أمامه جسد بلا روح، وفراغ دون ذاكرة، وأنه، هو وحده، الخلاق القادر أن يقول ما لا يُبرمج، ويكتب ما لا يُتوقع، حاملًا خوفه وتردده من كلمة تشبهه وتفضحه، ومدونًا وجعه المغروس في ذاته وذوات أخرى، لا تهزمها آلة مهما بلغت من «ذكاء».
** **
- د. بدور بنت محمد الفصام