Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
الملف
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 
ذلك العاشق المتيم بالمكان
أمل زاهد

 

 

تبدو تجليات المكان ظاهرة جلية في جل نتاج أديب المدينة المنورة وابنها البار الدكتور محمد العيد الخطراوي، فقد كان دوما الباحث الدؤوب والناقد المنصف والموثق الحريص والشاعر والأديب الذي تشتعل دواخله بحب المكان فيدفعه ذلك الوله وذياك الهوي إلى الكتابة عن معشوقته الأولى : المدينة المنورة. كما يمثل المكان بإشراقاته النورانية، وتجلياته المضيئة، وآثاره التاريخية الخالدة أحد أهم دوافع الكتابة عند الخطراوي والملهم الرئيس لها.

كتب الدكتور الخطراوي عدد من المؤلفات والبحوث والتحقيقات تزيد عن الأربعين مؤلفا، قارب في بعض منها تاريخ المدينة المنورة والحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والأدبية فيها في مراحل مختلفة، ونبش الذاكرة الأدبية المدينية ليسلط الضوء على أبرز شعراءها وأدباءها وكتابها، وكأنه كان يبحث دائما عمن يشترك معه في ذلك الحب ويقاسمه تلك المشاعر الصادقة، فينفض الغبار من على أضابير التاريخ وملفاته لينقل لنا صورا حية لأشعارهم ومفردات هواهم وكتاباتهم وصورهم وأخيلتهم. ولم يقارب الخطراوي موضوعا إلا وكان للمدينة نصيب كبير منه، أوكان لها أثرا في كتابته، أو شكلت ملمحا من ملامحها، ولو تأملنا عناوين كتبه لوجدنا أن كثير منها يعبق بضوع المدينة المنورة، وشذى ريحانها، وعطر نعناعها. فهذا كتابه (ثرثرة على ضفاف العقيق)، و(على أعتاب المحبوية) و(شعر الحرب في الجاهلية في الجاهلية بين الأوس والخزرج)، فإن لم يذكر اسم المدينة صريخا في العنوان فهناك إحالات ضمنية عليه! ناهيك عن مؤلفاته الأخرى المذكور فيها اسم المدينة المنورة في متن العنوان، وإلى التراجم التي قدم فيها لأعلام المدينة المنورة البارزين.

والمكان دون شك أحد أهم مكونات الانتماء وعناصر الهوية في وجدان الإنسان، فلا بد أن يهجس هذا المديني المتيم بالمكان، ولا بد أن يتغنى بالهوية ويحرص على إبراز مفرداتها وإيضاح معالمها، ويأتي مؤلفه الأخير (أسرة الوادي المبارك) حافلا ومضيئا بتجليات المكان وبأثره على نفوس من وثق لمسيرتهم الثرية وتاريخهم الحافل.

والكتاب يؤكد حضور المدينة كإحدى الروافد الثقافية المهمة والمكونات المعرفية الرئيسة، التي نهل منها أبناء الحجاز وساهمت بدورها في تكوين ملامح وسمات الشخصية الحجازية ونهل منها أيضا أبناء نجد وباقي المناطق الأخرى في المملكة العربية السعودية. فالهوية الحجازية أفاضت ونفحت من ثرائها كل من يتماس معها أو يحتك بها لما يحفل به تكوينها من غنى وملامحها من تفرد وتمايز، فقد امتزجت في تكوينها ثقافات وكيانات متعددة وهويات مختلفة قدمت إلى الحجاز ثم آثرت الجوار والاستقرار في الأرض الطاهرة فتلاقحت مع الهوية الأصلية وسكبت أطيب ما عندها في الوعاء الحجازي كما أخذت من سكان المدينة الأصليين أزكى ما لديهم ليتشكل هذا الكيان المتمايز بخصوصية ثرية وتوليفة بديعة، تفيض بالزخم الذي لا يستلبها أصالتها ولا يفتئت على عراقة حضارتها، بل ينجدل مع تلك المكونات ويتضافر معها ليضيف إليها فسيفسائية جميلة تزيدها إشراقا وتمنحها مزيدا من الألق والبهاء.

والكتاب أيضا يحاول أن يسلط الضوء على شخصيات أحبت هذه المدينة وحملت على عاتقها مهمة اثراء مشهدها الثقافي، ومضت تترجم ذلك الحب عملا مثمرا بناءا، وأدبا قويا، وشعرا جزلا، وفنا راقيا. كما يحاول الكاتب التوثيق تاريخيا ومعرفيا وثقافيا للنتاجات الأدبية والثقافية الصادرة من المدينة والتي تمخضت عن جهود أولئك اللذين ساهموا في الحركة الفكرية والثقافية وكان لهم دورا بارزا أو حتى دورا ثانويا أو ضمنيا قبيل تأسيس أسرة الوادي المبارك وفي فترة التأسيس نفسها ثم الفترة التالية والتي انشأ فيها نادي المدينة المنورة الثقافي والأدبي، ثم الفترة التي تلتها حتى وقتنا الحاضر، والمؤلف يشكر على جهوده في محاولة لملمة المتبعثر وإن كان كل جهد بشري معرض للنقص ولا يستطيع أن يلم بكل الجوانب ويذكر كل النتاجات أو يوثق لكل الأشخاص، ونحسب أنه لم يتعمد إهمال أحد أو إنكار جهد أشخاص ساهموا في تلك الحركة الثقافية.

يصف لنا الكتاب في أوائل صفحاته المناخ الثقافي الذي اصطبغ به الحجاز وتلون بصفاته، وذلك المناخ كان دون شك انعكاس ومرآة للمناخ الثقافي الذي ساد في تلك المرحلة في العالم العربي. فكان الحجاز متأثرا بما يتأجج على الساحة الثقافية من معارك فكرية ومن انتماءات أدبية، ويطلع مثقفوه على المجلات الراقية مثل الرسالة والكتاب والأديب، يرمق بعينه ما يجري في مصر والشام والعراق ثم يحاول الاقتباس والمحاكاة، فأسرته فكرة الجماعات الأدبية أمثال جماعة (الرابطة القلمية)، و(العصبة الأندلسية) و(بساط الريح) و(أسرة الجبل الملهم) والتي جاء اسم أسرة الوادي المبارك على وزنها ثم (جماعة أبولو) التي كان لها تأثير بليغ الأثر على شعراء العالم العربي بأسره. في هذا المناخ الثري تكونت جماعة أسرة الوادي المبارك، والتي أسهها الشاعر محمد هاشم رشيد والشاعر حسن صيرفي والأديب محمد عامر الرميح، ثم ساهمت كثير من الشخصيات المدينية في مسيرة تلك الجماعة، مثل عبد العزيز الربيع وعبد السلام حافظ ومحمد سعيد دفترار وعبدالرحمن رفه وعبدالرحيم أبو بكر وماجد أسعد الحسيني وعبد الرحمن الشبل والمؤلف الدكتور الخطراوي، وقد أورد الكاتب نماذج لنتاج أولئك الأعضاء الفاعلين في أسرة الوادي المبارك.

يورد الكاتب نماذج شعرية تتغنى بالمدينة المنورة لشعراء أحبوا المدينة مبتدئا بحسان بن ثابت ومتدرجا بعمرو بن الوليد بن عقبة الأموي ثم أبي عبد الله بن ابي عمران البسكري والمتوفي في المدينة عام 713 هـ، ثم يعرجُ إلى شعراء أحدث عهدا منهم من لا يزال على قيد الحياة ومنهم من توفاه الله.

والمتأمل في الشعر الذي يتغنى في حب المدينة لا بد أن يلاحظ أن المدينة تتمزج وتتماهي عند كثير من أولئك الشعراء مع الحبيبة، فكأنما الشاعر وهو يتغنى بمدينته يتغنى بحبيبته ويذكر محاسنها ويصف مناقبها ويعدد مزاياها، وكأنما الوطن هو تجسيد وترميز للحبيبة أو كأنما الحبيبة هي رمز وتعبير عن حب الوطن.

وهي إشكالية نجدها دائما عند المبدع العربي الذي لا يفتأ يبحث في الحبيبة عن وطن ،خاصة ونحن نعاني في بقع كثيرة من هذا الوطن العربي المترامي الأطراف من عقوق الأوطان وجحودها لأبنائها المخلصين أو من انتهاكها واحتلالها من المستعمر، فلا بد أن يبحث المبدع عما يصب فيه تلك المشاعر الجياشة فيلجأ إلى الحبيبة يتمثل في شخصها الوطن المفقود والأرض الجاحدة العاقة.

وقد يلجأ الشاعر للتغزل في وطنه أو مدنيته كشكل من إشكال الإسقاط الذي تفرضه عوائق معينة فرضتها قيود ثقافية مستحدثة لم تكن موجودة من قبل عند الشاعر العربي القديم الذي اعتاد أن يسبح في كافة الاتجاهات غير هياب أو وجل من وصمة يوصف بها أو مسبة توجه ضده وترمى فوق كاهله. فنلاحظ أن الشعر الأقدم هو الأكثر انفتاحا على الغزل والتغني بالحبيبة والمتحرر من ربقة الخوف والتوجس مما قد يقوله الناس، وربما نستطيع أن نعزو تلك الظاهرة إلى أن المجتمعات آنذاك كانت مجتمعات بدائية تظهر فيها حراشة الفطرة جلية ظاهرة، وتنزع بطبيعية وبراءة إلى الوضوح وتسمية الأشياء بأسمائها والاعتراف بالميول الغريزية دون مواربة أو خجل، فقشرة التمدن تفسد الفطرة وتلوث البراءة الطبيعية وتكبلها بأصفاد متينة وتمنعها من الانطلاق والسباحة، وتفرض على الناس ارتداء الأقنعة التي تخفي ملامحهم النفسية الحقيقية، وكلما زاد تمدن الإنسان كلما تمكنت منه تلك القيود وألجمت قدرته على التعبير وأجبرته على التحايل والإسقاط، وساهم في الانغلاق الأدبي والفني في الحجاز سيادة تيارات فكرية منغلقة ومتشددة، التفت عليها عادات اجتماعية وظواهر سلوكية لم تكن موجودة في أهل الحجاز، فزادت في تكبيل المبدع وشددت عليه الخناق.

Amal_zahid@hotmail.comالمدينة المنورة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة