Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
فضاءات
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 

ما قد أضيفه إلى أطروحات المفكر الفرنسي أوليفيه روا عذرية المهجر وفحولة المنفى «2-2»
محمد عبدالله الهويمل

 

 

إن الهجرة مهما بلغت نفعيتها تبقى منجذبة إلى مركزية إسلامية ذات البعد الفئوي الحاسم المنطوية على شعارات تفسرها ثنائية (دار الإسلام ودار الكفر) وتبلغ عنفوانها في الغربة، وتضاعيف الممدونات الجغرافية للرحّالة المسلمين قديماً زاخرة بمرصودات تشي بمدى تجذر هذه الثنائية الحدّية، والرحلة هي ضربٌ من ضروب كسر المكان. ومما يؤكده الباحث الدكتور عبدالله إبراهيم عن هذه المركزية أن العودة إلى الممدونات في الثقافة الإسلامية طوال القرون الوسطى تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوشة ومركبة بدرجة كبيرة من التشويه، فهذا الخيال كما يرى أيضاً المُعبّر رمزياً وتمثيلياً عن تصور المسلمين للعالم خارج دار الإسلام قد أنتج صوراً تبخيسية للآخر، فالعالم بالنسبة لذلك غفل مبهم بعيد عن الحق، وهو بانتظار عقيدة صحيحة تخلصه من ضلاله، كما أن التحيزات الخاصة بذلك التمثيل الذي استند إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت شكلين: ففيما يخص الذات أنتج (التمثيل) نوعاً من (الأنا) النقية الحيوية المتعالية والمتضمنة للصواب المطلق والقيم الرفيعة والحق الدائم بها، وفيما يخص الآخر أنتج (التمثيل) (آخر) يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً والخمول والكسل أحيانا أخرى. ويؤكد الباحث عبدالله إبراهيم في سياق بحثه عن المركزية الذي وضعها على صفيحها الساخن.. ذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية وبذلك أقصى المعاني الأخلاقية المقبولة عنده واستبعد أمر تقبل النسق الثقافي له فحمّل الآخر من خلال تفسير خاص به بقيم رتّبت بتدرج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية. وبذلك (لتمثيل تمايز بين الأنا والآخر أفضي إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهل أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني وتخليصه من خموله وضلاله وبوهيميته ووحشيته وإدراجه في عالم الحق) وهذه الصورة المهاجرة تستنسخ ذاتها في هجرة متأخرة للشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) حيث مَثّل الطهطاوي بالصورة الباريسية على نحو لا يقل مركزية عن مماثليه الرحالة المسلمين القدماء كقوله (خصالهم الرديئة) (مشحونة بكثير من الفواحش)، (عقائدهم القبيحة)، (العقائد الشنيعة)، (البهائم) والرجوع إلى هذا الكتاب يمنحنا المزيد من النصاعة على مسكونية رمزية الهجرة وثقل معطياتها على الخطاب المهاجر.

إذاً خريطة يثرب متوغلة داخل الوجدان الحركي لكل مهاجر مسلم تطفو على سطح الوعي، كما هو الحال لدى بعض الدعاة الإسلاميين المهاجرين أو راسبة في اللاوعي كما هي الحال في الهجرة النفعية التي يتحكم في حضورها حلل في آليات التلقي تفسرها أحيانا حالة ذهول سببت ربكة في تراتبية موجودات الإدراك المكرّس لوهم لذيذ يضفي على المشاعر الطموحة طابعاً شفافاً من النعيم هو نعيم الجنة المتوهم، وهنا تكتمل الدرجة العليا من سلم الوهم الذي قال فيه أحد النقاد: (الوهم هو الخيال المرتبك).

من الشرق الصوفي إلى الشرق الحركي

التداعيات الآنفة تعيد قراءة الشرق والإسلام قراءة أدق مكاشفة ووعياً بهذا الآخر المتحرك، تقحمه في ندية حقيقية وتعيد إنتاج القطبية فلم يعد الشرق - كما هو في العهد الاستشراقي - ذلك الشيخ الصوفي المتكور في ركن تأمله الذي يَعدّ بلوغ جوهر المعرفة منجزاً عمرياً لا إنتاجياً أو أنه ذلك المترهل في علاقته بأشيائه، فبعد أن كان جلال الدين الرومي وابن رشد وابن عربي هم واجهة الفعل الشرقي أو الإسلامي والذائقة الغربية الجديدة وحشرت شارعها في ضرورة التعاطي مع طرف حيوي يشتغل على استدعاء موجودات الفاعل الكوني من ذاكرته الصوفية المهملة أن الكتابات المتأخرة لكبار المؤلفين الفرنسيين والألمان على الأخص تشي وترصد هذا التبدل ولاسيما الدكتور مراد هوفمان الذي يفلسف المتغير الإسلامي على هذا النحو من التقابلية المتكافئة حركياً.. ولكن أين تكون ثقافة الهجرة من هذه الانتفاضة الحتمية؟

الهجرة نشاط يرادف في حركيته لغوياً النزوح وتجاوز حدود الخصوصية والخلوة فالتنقل هو هتك أدبيات الخلوة، ووقار العزلة يسفر عن تبني أفق حركي يتناغم والقدر الحركي للهجرة الذي يبدو أنه ليس قَدَراً محكوماً بالنزوح مبتسراً من سياقه التحولي العريض إذ إن الخيار الفردي هو الفارز المطلق لمقبولية الهويات وتقويم معالمها، وهذا الخيار سيكون لاعباً مهماً في مشهد ما بعد الهجرة من حيث آلية بناء الرأي والقيمة الجديدة تندمج في الصورة الغربية اندماجاً خارجاً عن الرقيب المجتمعي والممنوع التقليدي وتمظهراته الشعبية وعندها سيتأسس الفرد السسيولوجي بشرطه الحركي متنصلاً من جغرافيا الخلوة الصوفية ومربعها الشرقي إلى مساحات رحبة غير مؤطرة بأي شكل هندسي يأخذ فيها التأمل شكل الحركة والحركة شكل التأمل في تتابع دائري يمكّن للذاتية. وفي هذه المناخات الفردية تتنامى مشاعر متناقضة كما أسميها أو كما يسميها (أوليفيه روا) ب (الفرصة المتناقضة)، وهذا الفصام أو الازدواج الحزبي ينتهي إلى ألفةٍ خادعة مع غربة توفر نعيما هوسيا ومجانيا لاستحضار وإسقاط وصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم (طوبى للغرباء)، وهذه الوصية الكريمة تشي بأن ثمة حراكا مُرِغّبا به وذا خصوصية من حيث التلبس وثواب التلبس تفعّل الجانب الفرداني وتقر نظاماً رمزياً ينال الدرجة الآنفة من النعيم أو الفردوس الدنيوي ذي الكثافة الخضراء، يسهل من شأن العبور بين الألوان الأخضر الدنيوي إلى الأخضر الأُخروي وهي لحظة ابتهاج غير متوهمة تغشى اللحظة الزاهدة التي تفسر الزهد بأنه على نوبة احتقار للدنيا (الآخر)، فالمركزية حاضرة الثنائية التي يتضاءل أحد أطرافها إلى درجة الصفر.. يقول أحد الزهاد: (إنّا لنشعر بلذة لو علم بها الملوك أو أبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف)، ويقول آخر: (من لم يذق لذة الدنيا - يعني الزهد والطاعة - فلن يذوق لذة الآخرة)، وفي هذه التوحدية يسهل العبور بين الأخضرين كما أسلفت، والذي يتأمل رسالة الانتحاري محمد عطا بوسعه أن يتحسس هذا العبور الشفيف.

عصامية الرفض والقبول

يذكر أحد الباحثين أن الأصولية الجديدة ليست مركبة بل حالةً نفسية. ونفي الحالة التركيبية - حسب تعبيره - يكرس للفردية ويعزز الوسائل غير التقليدية للتعبير عن الماهية الوجودية للمغترب.

الاغتراب هو واحدية المكان والواحدية كثيراً ما تلتبس بالأحادية الرافضة للتسوية مع الآخر، وهي في بعض حالات الهجرة غير منصاعة مع الاندماج في سقف تعدد الثقافات.

إذن واحدية المكان هي المعادل للمؤطر الجغرافي، وفي هذه المعادلية تحضر خارطة يثرب من جديد تعرّف الهامش الضيق للغربة، بل وتعرّف انكسار هذا اليثربي بأنه لا يفضي إلا إلى (بدر) لحظة تماس الصوفي الحركي واختراق عنيف يستكمل شروط الأخضر ولا يقل عنفواناً في درجته عن التماهي مع اللا متناهي والانخراط الشفيف مع المطلق والسمائي تبدّى في فعل جوي تدميري. في هذه الإلحاحات التقنية ودورها الطليعي في شرح الذات للآخر على هذا النحو نجدها تبذل تواطؤاتها مع الإرادي ضد التقليدي إذ جذرت مفعول الفردية في البنية السسيولوجية لثقافة الهجرة والغربة فالسلاح الإنترنتي طرح العصامية في القبول والرفض، وكما يؤكد أحد باحثي ظاهرة الإسلام السياسي وهذا التواطؤ الإنترنتي يسدي خدمةً للمشروع العولمي بالبواعث الفردية يسميه (أوليفيه روا) ب(نهاية أرض الإسلام) أو نهوض الأمة الخيالية التي تدعم بناءها المعرفي بأدوات غير مؤسساتية ليبرز الفردي من جديد مكيناً تجاوز كل فحوصات الأسلمة الإنترنتية، حيث تم قطع كل الروابط الوحدوية التقليدية وأسس الرابط الأخضر الراديكالي بين بعض العناصر المهاجرة أو المتحدرة من الهجرة وعندها يكون الصوفي قد بلغ تمام الخسارة وانحسار فعاليته الجمعية وأخذ الحركي الفردي مداه في أعمق المنتجات الانترنتية. أخلص في النهاية إلى القول بأن الإرث الجهادي الباهظ الذي تتوارثه الأجيال المسلمة والذي لم يتخذ مناحيه ولم يتصرف في مجاريه ليس ناجماً عن ضاغط توجيهي إنما هو قدر وجودي وماهية فضفاضة متعذرة على التقلص تديرها ذاكرة زاخرة بموجودات حساسة تفتقها الرغبة أو الهجرة أو الخوف أو الشهوة أو التأمل الفرداني أو الوهم.

- الرياض hm32@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة