Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
فضاءات
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 

القصيبي في مواسم الأحزان «2-2»
إبراهيم مضواح الألمعي *

 

 

يعتبر القصيبي أن أول مواجهة له مع الموت كانت عند وفاة جدته لأمه (سعاد)، وكان عمره حينها خمسٌ وعشرون سنة، والحقيقة أنَّ له مواجهاتٍ سابقةً مع الموت، وإن لم يدركها، بدأت بموت أمه وهو في الشهر التاسع، وقد قال في الحنين إليها بعد موتها بنحو خمس وعشرين سنة:

هذي القصيدة يا حبيبة في

حنيني لا رثائكْ

فأنا أُحِسُّكِ رغم رحلتك

البعيدة في فنائكْ

* * *

رمضان يا أماه أغبرُ

ما توضأ من إنائكْ

ظمآنُ يجترُّ الظما

ظمآن يحلم بارتوائكْ

* * *

أماه! كيف الموت؟! هلْ

أرخى الستارَ على عنائكْ

ثم تتابع الراحلون من آل القصيبي، ومن أحباب الكاتب وأصدقائه، حتى قرأنا له كثيراً من المراثي، وأبيات الوداع، وآلام الذكريات، ومن أفجع لحظات الوداع أن يموت الأب المثالي:

وفي لحظةٍ يا أبي وصديقي

فقدتُك.. عدتُ يتيماً صغيرا

يُغالبُ بين الجموعِ الدموعَ

ولا يستطيعُ.. فيبكي كثيرا

وأنتَ هنالكَ فوقَ الرقابِ

تلوحُ كعهدي كبيراً.. كبيرا

مهيباً برغمِ انطفاء الحياة

رغم انسدالِ الستارِ شهيرا

ويأتي الحديث عن الأب الصديق (أوّاه ! ماذا تقول عن أبيك؟ كان رجلاً سبق جيله، بأجيال، وسبق مجتمعه بمراحل، كان متديناً على الطريقة السلفية، وكانت له علاقات قوية مع أصدقاء من مختلف المذاهب والأديان.. كان أبوك رجلاً لكل المواسم، عرف الفقر كما عرف الغنى، عرف الصحة وعانى المرض، صاحب الملوك والأمراء، وكان شديد القرب من البسطاء والفقراء) (ص.ص87-88).

وحين تقرأ مراثي القصيبي لأحبابه وأصحابه، تجدها صادقةً، نابعةً من حزنٍ وفقدٍ حقيقي، لا أداءً لواجب العزاء، أو تسجيلَ موقفٍ لا بدَّ من تسجيله، وإن للقارئ عينٌ لا تخطئ صادق الشعور، من كاذبه. فإن خذلتنا العيون أحياناً، فما تطرق الخذلان إلى القلوب، التي لا ينفذ إليها، إلا ما كان نابضاً بالصدق.. وفي الخامسة والستين نقرأ ديواناً من المراثي، يبدؤه برثاء عمره المنصرم، في قصيدة (حديقة الغروب) التي حمل الديوان اسمها:

هذي حديقة عمري في الغروب.. كما

رأيتِ .. مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ

الطيرُ هاجرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ

والوردُ أطرقَ يبكي عهدَ آذارِ

ولم يكتف القصيبي بالشعر، بل قال في (المواسم) نثراً ما لم يقل شعراً حيثُ استعرض الراحلين، وإذا هم الأخوان والأخوات، وأبناؤهم، وبناتهم، يتبعون الأم والأب والجدة (سعاد) منهم من يكبره، كإخوته عادل، وحياة، وفهد، ومن أقرانه (أحمد) ابن أخته نورة، ومن هو في ريعان الشباب ك(مازن) ابن أخيه مصطفى، و(جاسم) ابن أخته منيرة، و(صبا) ابنة أخيه عادل (ماتت صبا في العشرين، وردةٌ في أوجِّ ريعانها، ابتسامةٌ أحلى من الفجر، قصيدة قصيرة ساحرة)(ص18). ومن الراحلين (ليلى) ابنة أخيه نبيل التي (ماتت في الثامنة، كوردة لم تتفتح، كابتسامة لم تكتمل كقصيدة لم تبدأ)(ص17).

بدأ القصيبي رحلته مع الأحزان من المقابر، في البحرين، وفي مقبرة الشهداء في لبنان، ثم في الرياض، فحاول الفرار إلى زمن البراءة والطفولة، فراراً من اليوم، وخوفاً من الغد..

في المقبرة بعد وداع أخيه (فهد) تسأله نفسه، أو يسألها: (أوّاه من تبقى من أخوتك الذكور؟ لم يبقَ سوى أخيك إبراهيم، الذي يسير بقربك، الآن، في المقبرة، وتسأله:ترى من سيكون عليه الدور في المرة القادمة). (ص41)

والملاحظ أن عدداً من الراحلين كانت السيارة غائلتهم، ومن سلم اليوم من غيلة السيارات؟، التي يسميها: (السيارات المقاصل)(ص28)، و(السيارات المشانق) (ص86)، و(السيارات الكراسي الكهربائية) (ص86).

لم تغب عن ذاكرة الكاتب تفاصيل المواجع والآلام، سوى الخمس السنوات الأولى من عمره، عاشها في الهفوف سقطت من ذاكرته، رحلت خلالها أمه، التي لا يملك عنها معلومات كافية، حيث (كان الحديثُ عنها يثير المواجع، ولم تكن تريد أن تثير المواجع، وعندما كبرتَ هرمتْ ذاكرة الذين عاصروها) (ص72)، (لا تعرف كيف كانت تتعامل مع الوجود، ومع الناس، ولا كيف كانت تضحك، وكيف كانت تبكي، ولا تعرف شيئاً عن طباعها أو مزاجها) (ص74)، وأي حسرة يعيشها المرء ، حين تغيب أغلى الغاليات، عن الوجود، وعن الذاكرة معاً..

أما حياته في البحرين بمباهجها، وبراءتها، فقد وعاها جيداً، ورواها بحنين تنبض به الكلمات، حتى ليتمنى أن يكتب رواية عن تلك المرحلة: (لو تستطيع أن تكتب رواية عن الحياة اليومية داخل البيت الكبير، إلا أن معلوماتك لا تسعف) (ص56).

قليلاً قليلاً تتسلل الكآبة إلى روحه، وكم قتلت الكآبة: (الكآبة التي ترتدي ألف وجه وتقتل بألف سيف) (ص 73) وهي التي سيطرت على أمه التي لم تكن سعيدة بالحياة في الأحساء، وهي بنت الحجاز.. وهي التي تسللت (مع المرض، إلى روح أخيك فهد، الكآبة مرةً أخرى! الكآبة مرةً عاشرة! لو كانت الكآبة امرأة لقتلتها، جزاءً وفاقاً على ما قتلته من رجال ونساء) (ص40).

كل هؤلاء رحلوا وبقي غازي، الذي أحبَّهم وأحبُّوه، وها هو يكتب، عن مواسم الحزن وهو في الخامسة والستين: (وأنت في الخامسة والستين تشعر أنك غصنٌ بقي بمفرده على الشجرة، طائرٌ رحلت الأطيار وتركته عاجزاً عن اللحاق بها) (ص21).

في الخامسة والستين يشعر أن بلاءه في الروح (أزمتك أزمة روح وأزمة جسد، أزمة روح تململت في سجن الجسد، وأزمة جسد أضناه تململ الروح) (ص8).

في نهاية الكتاب يفيق الكاتب من أحزانه، وإن لم تغادره، ولكنه يولي وجهه شطر الأولاد الناجحين، والأحفاد النابهين، ويعقد آمالاً، تعينه على الاستمرار. (وها أنت ذا، الآن، في الخامسة والستين، تودع مواسمك كلها، وتسعد برؤية مواسم أولادك، وأولادهم. أولادك، بحمد الله يعيشون في مجمع سكني صغير واحد، وفي بيوتٍ متجاورة، ويارا وزوجها وأولادها ، تعيش على مرمى حجر، يجتمع الأولاد والأحفاد عندك في نهاية الأسبوع)(ص90).

أما روحه الجريحة فإنه يؤمن إيماناً عميقاً بمآلها: (ستضطرب روحك في جسدكَ ما شاء الله أن تضطرب، وستهجره عندما يشاء الله أن تهجره، ليس لك من شؤون الحياة والموت شيء. له ما يعطي وله ما يأخذ، لا رادَّ ولا معقِّب، وله الحمد في الدنيا والآخرة) (ص8).

وها أنا ذا، الآن، أطوي الصفحة الأخيرة من كتاب (المواسم) لغازي القصيبي ونفسي مكتظة بما أثار من الأحزان، وتوجس الانتظار، والإشفاق من مواسم الحزن القادمة، ألم أقل لكم لا تقرؤوا هذا الكتاب الجميل الحزين؟!

* أديب وقاص سعودي - أبها igmw@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة