Culture Magazine Monday  05/11/2007 G Issue 221
فضاءات
الأثنين 25 ,شوال 1428   العدد  221
 

آخر حروب الطواحين
د. شهلا العجيلي

 

 

يبدو الفنّ، غالباً، صراعاً بين الإنسان، ومدّ القيم، أو طغيانها، ممّا يظهر الإنسان والقيمة ضدّين، فتتجلّى الثغرات في الثقافة، ممكّنة النفعيين، والمارقين، والجهلة من الالتفاف عليها، فيبدؤون حرباً معلنة على القيم، بحجّة اغتيالها حريّة الإنسان، ومن ثم إنسانيّته.

إنّ القراءات المتوالية لرائعة (سرفانتس) (الدون كيشوت دو لامانشا)، منذ بدايات القرن العشرين، لم تخرج على الحكم النقديّ الذي يقول: إنّ الدون كيشوت (ملحمة هجائية ضدّ قيم الفروسيّة وتقاليدها وأشكالها)!

لقد جاءت التجربة الإنسانيّة تاريخيّاً، كما أرى، بنتيجة أخرى، مضادّة، إذ كشف تطوّر الفنون عموماً عن الكثير من النزعات الإنسانية، وآليّة عملها، كما تمكّن النقد، بأدواته المتجدّدة من التغلغل داخل النفس، والمجتمع، لإعلان خريطة طرق المخاتلة النسقيّة التي توصّلت إليها التجربة التاريخية، وبذلك أمكن أن نصل إلى رأي نقديّ مفاده أنّ (الدون كيشوت) لم يكن ضدّ قيم الفروسيّة التي تنتصر دائماً إلى الحقّ والخير والجمال والعدالة، بل وقف في كلّ من خطابه، وقصته، وسرده، ضدّ العصر الذي جعل هذه القيم تبدو مضحكة، ومثيرة للسخرية. لقد كشفت لنا الرؤية السرديّة للنصّ بما قامت عليه من سخرية مثيرة للضحك والأسى في آن معاً، عن مدى الشطط الذي وصلت إليه كنيسة العصور الوسطى (الدينيّة - السياسيّة)، في تسخيرها القيم التي تتشابك مع فضائل الدين وتعاليمه لخدمة مصالح طبقة محدّدة، فيما يعيش الشعب برمّته يتنافس في الولاء لتلك القيم التي ترضي الذات بإرضائها الربّ، ولمّا تطرّف سدنة ثقافة القرون الوسطى في فرض أعرافهم جاء عصر النهضة بالكفران بثقافة العصر الوسيط كلّها، ومنها الحالة الفرسانيّة، وتقاليدها.

كان (سرفانتس) قد وعى هذا التناقض بين القيمة وبين النسق الذي يستغلّها لخدمته، وقد أثاره ذلك التنكّر لأخلاق الفرسان التي لم تتنافَ يوماً مع إنسانيّة الإنسان، فأنتج شخصيّة (الدون كيشوت) الذي يبحث عن قيم مفقودة في عالم متدهوّر، فكان نموذجاً للإنسان الذي تكتب الرواية من أجله.

لم يأت (الدون كيشوت) ليسخر من قيم الفرسان، لذا فإننا، بوصفنا متلقّين، لم نكرهه طوال الرواية، ولم ننفر منه طوال الزمن، إنّنا نضحك، لكنّه ضحك مشوب بالأسى، نضحك من المفارقات التي نمرّ بها معه، من غير أن نفقد احترامنا له، لأنّنا سنكتشف أنّ كلاًّ منّا مرّ في حياته بمواقف دونكيشوتيّة، بل إنّ معظمنا يحمل في ذاته جانباً دونكيشوتيّاً!

يجب ألا يثير هذا الجانب الدونكيشوتيّ في ذواتنا فزعاً، فهو دليل على أنّنا أسوياء، ذلك أنّ النسق الذي يحاول أن يجعل من البراغماتيّة قيمة، وأن يجعل من البراغماتيّ نموذجاً هو نسق يستحق العداء.

إنّ الفرق بين الإنسان السويّ الذي يمتلك جوانب دونكيشوتيّة، وبين (الدون كيشوت) بحدّ ذاته هو أنّ الأوّل وعى أنّ حرب طواحين الهواء غير مجدية، فقرر إنهاءها، والالتفات إلى خصم أكثر بشريّة من الطاحونة، وأكثر واقعيّة منها، ولعل الإنسان السويّ اليوم هو الأقرب إلى شخصيّة (سانشو).

لقد تنازل الدونكيشوتات عن طموحاتهم بإصلاح العالم، وعن بسط الأخلاق على طاولة الفرسان، وذلك مقابل تسييد نموذج (سانشو بانشا) الواقعيّ وإزاحة نموذج البراغماتيّ الذي تحاول الثقافة تسييده، لذا فهم يدخلون معركة كلّ يوم في مواجهة المردة، وركّاب الأمواج، والمتكسّبين بالكلمة وبالفعل، إنّهم يريدون للعالم سلاماً عادلاً، وذلك بعد أن خسر الإنسان آخر حروب الطواحين!

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة