Culture Magazine Monday  05/11/2007 G Issue 221
فضاءات
الأثنين 25 ,شوال 1428   العدد  221
 

حول رحيل الشاعر سركون بولص
أجمل قصيدة كتبها رفضه للاحتلال الأمريكي لبلده
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

غادرنا أخيراً الشاعر العراقي المهاجر سركون بولص (بعيداً عن السماء الأولى) وحتى السماء الثانية (أمريكا) إذ توفي في ألمانيا التي كانت أثيرة لديه لذا كان يتردد عليها في إقامات طويلة.

ومن يقرأ اسم هذا الشاعر يعرف أنه آشوري (نسبة إلى آشور بانيبال) أو (آثوري) كما يقال في العراق، والآشوريون هم من الأقوام الأصلية في العراق ولم يفدوا عليه من خارجه رغم أن تعاقب القرون قد حولهم إلى أقلية في محيط عربي واسع.

وقد عرف العراق عدداً من الأدباء الآشوريين الذين يكتبون باللغة العربية ومنهم مثلاً صموئيل شمعون الذي يصدر من لندن مع زوجته البريطانية فصلية (بانيبال) وله أيضاً موقع (كيكا) الالكتروني. ونذكر أيضاً الشاعر الشريد جان دمو الذي توفي قبل سنوات في مهجره الاسترالي.

وفد سركون إلى بغداد كما وفد أدباء آخرون من مدن العراق المختلفة في سنوات الستينيات، وكان ينتمي إلى مجموعة من الأدباء الذين اصطلحنا على تسميتهم (جماعة كركوك) وليسوا كلهم شعراء بل فيهم كتاب قصة ورواية وأذكر هنا جليل القيسي ويوسف الحيدري وأنور الغساني الذي يكبرهم في السن قليلاً وقد نشر بعض قصصه في مجلة (الأديب اللبنانية) باسم أنور محمود سامي قبل أن يضع اللقب. كما أذكر فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وفائق مصطفى ونصرت مردان وآخرين.

ويتميز هؤلاء بمعرفتهم لعدد من اللغات التي تنتشر في هذه المدينة التي يتشكل منها الفسيفساء العراقي الذي كان دائماً عامل إثراء، إنهم يعرفون الانكليزية والتركمانية والكردية والآشورية.

وفد سركون إلى بغداد وهو مسكون بأحلام الشعر والقصة والحداثة إذ كان قارئاً هاضماً لأهم النصوص الروائية والقصصية التي تنشر باللغة الانجليزية، وكان يترجم ما يعجبه ويود أن يشاركه أصدقاؤه قراءته وله عديد الترجمان التي ظل يواصل انجازها ولم يتوقف عنها.

لقد التقيته قبل أن ألتقيه عندما كاتبني إلى جريدة (الأنباء الجديدة) الأسبوعية التي كنت أحرر الصفحات الثقافية فيها وقد منحني رئيس تحريرها مساحة كبيرة لنشر ما أريد نشره من النصوص التي تفد على الجريدة في البريد أو من الأصدقاء، وقد بعث لي ببعض كتاباته التي نشرت في وقتها، كان هذا عام 1964 وكان في العشرين من عمره وفقاً لتاريخ ولادته المنشور 1944، وأظن أن هذه الكتابات هي أول ما نشر له إذ لم أعرف أنه نشر قبلها.

لقد جذبته صفحات الجريدة الشابة كما جذبت أبناء جيله ووجدوا فيها مرفأ ملائماً لكتاباتهم، وقد شكلوا لاحقاً نواة جيل الستينيات العراقي رفقة زملاء آخرين لهم. وأذكر هنا خالد حبيب الراوي، عبدالستار ناصر، علي جعفر العلاق، بثينة الناصري، موسى كريدي، حميد المطبعي وآخرين.

وحول هذه الصفحات سيؤكد بعد سنوات الشاعر والباحث سامي مهدي يف كتابه التوثيقي (الموجة الصاخبة) أن هذه الصفحات التي شاءت الظروف أن أكون المشرف عليها هي المختبر الأول لهذا الجيل الذي رفد الكتابة الأدبية العراقية بالجديد الخارج عن المألوف والسائد في المشهد الأدبي.

لكن سركون بولص الذي عرفته في البداية كان كاتب قصة محدثاً حقاً ولم يكن شاعراً ومن قصصه التي لا زلت أتذكرها قصة بعنوان (القنينة) التي نشرتها مجلة الأداب اللبنانية، ولو أنه واصل كتابة القصة والرواية لقدم فيهما مساهمة أساسية، لكنه تحول بشكل كامل لقصيدة النثر وكتب فيها نصوصاً أهلته بعد سنوات ليكون أحد أعلام هذه القصيدة في أدبنا العربي.

ينتمي سركون كما ذكرت إلى من اتفقنا على تسميتهم لتميزهم عن الأدباء الآخرين إلى مجموعة كركوك أو جماعة كركوك وهم المجموعة الأبرز التي خرجت من محليتها إلى العالم إذ إن أعضاء هذه المجموعة غادروا العراق كلهم تقريباً عدا جليل القيسي ويوسف الحيدري اللذين انتقلا إلى رحمة الله.

فأنور الغساني الآن في كوستاريكا بعد سقوط جدار برلين حيث كان يقيم في ألمانيا الديموقراطية، ولأنه اقترن بسيدة من تلك البلاد البعيدة. وغادر فاضل العزاوي ومؤيد الراوي إلى برلين الشرقية وقتذاك وما زالا فيها حتى اليوم.

أما سركون أبكرهم بالرحيل فقد استقر به المقام في أمريكا بعد أن أقام فترة في بيروت.

سركون أحد الذين لم تستهوهم الدراسة وأظنه لم يتم المرحلة الثانوية رغم ذكائه وأهمية إبداعه ولكن هاتين الصفتين لم تشفعا له أمام العسكرية إذ عليه أن يؤديها. وهنا بدأ مغامرته بعدم الإذعان والانخراط في جفاف هذا العالم، ونجح الناقد شجاع العاني ابن مدينة (حصيبة) الحدودية مع سوريا في تهريبه إليها ومن هناك إلى بيروت ليستقبله الشاعر يوسف الخال الذي فسح له المجال كاملاً في مجلة (شعر) نشر فيها الكثير من النصوص. ثم هيأ له الخال جواز سفر عن طريق منظمة الكنائس العالمية التي كان الخال قريباً منها وتحول سركون إلى أمريكا لتكون محطته إلى العالم.

حضر إلى بغداد في الثمانينيات مرة أخرى أو أكثر ملبياً دعوة من مهرجان المربد وهناك التقيته في بهو فندق ميليا منصور، لكنه لم يقرأ نصوصه الشعرية أمام جمهور يبحث جله عن جعجعة القوافي، لم يلب عندما دعي لذلك، ولكنه استقبل أسرته وأصدقاءه وكان جان دمو الوحيد من بين الأدباء الذي ظن أن سركون جاء من أمريكا بكنز من الدولارات فوجدها فرصة أن يأكل ويشرب على حسابه وبابتزاز.

بدأ سركون يفرض حضوره عندما أخذ يلبي الدعوات التي تصله من أوروبا وحضر أغلب الملتقيات الشعرية المعروفة إذ ارتبط بشكل أو آخر مع مجموعة من الشعراء العرب المقيمين في المهاجر الذين أصبحوا واجهة الشعر حيث يحضرون كل مهرجاناته ليساهموا ويوسعوا علاقاتهم.

لكن هؤلاء الشعراء كانوا يعترفون سواء أعلنوا ذلك أو أخفوه بأنه الشاعر الأبرز بينهم، وقد قرأت مراثيهم له التي نشرت في صحف لندن وبيروت وبعض مواقع الانترنت، وفي بلدان خليجية التي تؤكد هذا.

لم أدر أنه كان مريضاً، وقد قرأت عن مرضه لكنني ظننت أنها حالة مرض طارئة.

وقد توفي بعيداً عن وطن الإقامة الثاني أمريكا مات في ألمانيا بين يدي أصدقاء أحبوه وعايشوه يقيمون في هذا البلد لذا كان يتردد عليه أكثر من غيره، وأذكر هنا مؤيد الراوي وفاضل العزاوي رفيقي بداياته وخالد المعالي الشاعر وصاحب دار الجمل للنشر.

هاجر سركون من العراق أواخر الستينيات ولكن أحداً لم يستطيع أن يوظفه في سياق معارضات اكتشفنا عمالة معظمها بعد احتلال العراق. وكان مع وطنه حتى في سنوات الحصار.

وان كان سركون قد ترك كتابات أثرت وستؤثر على قلتها فإنني مع ما قاله صديق عزيز تعليقاً على رحيله وحيداً حيث اختار العزوبة الأبدية بأن آخر قصيدة رائعة كتبها سركون هو رفضه الكامل لاحتلال بلده من قبل الأمريكان رغم انه كان يحمل جواز سفر منهم.

- تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة