Culture Magazine Monday  05/11/2007 G Issue 221
نصوص
الأثنين 25 ,شوال 1428   العدد  221
 
الشيء الذي حدث
فتحي نصيب

 

 

لم يلق بالا إلى غياب منفضة السجائر عن مكانها، في السابق كان يلومها على ذلك، انشغل بتصفح مجلة فيما كانت تجلو الأطباق في المطبخ، وكان بوسعها أن تتكهن بما يفعله في هذه اللحظة: يجلس - كعادته - بعد كل عشاء ليدخن ويقرأ، بجانبه منضدة زجاجية صغيرة فوقها منفضة السجائر، وحين تستغرقه القراءة ينسى موقع المنفضة؛ ما يجعل رماد السجائر يقع على السجادة، ويترك أثرا لا يزول بسهولة.. كانت تلومه على إهماله وكان يبتسم لها كطفل أساء التصرف.

بدا له - أثناء القراءة - أن المشكلة كلها في غاية السخف، وود - في أعماقه - أن تنتهي هذه الليلة الثقيلة على أي نحو كان.

بدت لها عاداته المزعجة أمرا يمكن التآلف معه، ولا تستحق أن تثور من أجلها. الغريب أن هذا الخاطر عَنّ لها الآن فقط بعد أن اتفقا على إنهاء ما بينهما مع مطلع شمس الصباح.

في البداية آمنا بأن الحب وحده يكفي لإزالة كل العثرات.. والآن باتا يعتقدان أن الحياة ما هي إلا مواقف صغيرة تتراكم مع الزمن.

أدار جهاز التسجيل فانبعث صوت (فيروز)، انتبه للمرة الأولى في حياته إلى مسحة الحزن في صوتها، وكأنه رجع بعيد، شجي مفصول عن الموسيقى والكلمات.. كانت هذه الأغنية بالذات المفضلة لديها.. رفع صوت المسجل قليلا لتتمكن - وهي في المطبخ - من سماع أغنيتها العزيزة على قلبها، تخيلها الآن تجلو الأطباق مرتدية قفازا مطاطيا رقيقا.

كلاهما - هو في الصالة وهي في المطبخ - يستمع إلى الأغنية، وفي نفس الوقت يرهف السمع نحو الآخر ولا يستطيعان تخيل ما حدث وما سيحدث. تمنيا - في أعماقهما - أن يبادر الآخر بالمصالحة ونسيان الأمر برمته.

طرق خاطره أنها السبب فيما حدث، فهي قد أذنبت في حقه كثيرا، وطالما سامحها على عثراتها إلا أنه لم يعد يحتمل منغصاتها اليومية.

أتت إلى الصالة حاملة الشاي، تناول كوبه وظلا يحتسيان الشاي في صمت، تشاغل بتصفح المجلة، وتشاغلت بالعبث في سلسلة تطوق عنقها، إلا أنها أبعدت يدها فجأة حين تذكرت أنه أهداها لها في أول عيد زواجهما، كانت تنظر إليه خلسة فيما هو مستغرق بالقراءة، بدا لها أنها تشرب الشاي مع رجل غريب.

أرجعته صورة في المجلة إلى عدة سنوات مضت، حين تعرف عليها لأول مرة، وتكررت لقاءاتهما في ركن مقهى يشرف على شاطئ البحر، لم ينتبه حين غيرت الشريط في جهاز التسجيل.

قبل أن تعود إلى مقعدها هزتها ذكرى مرضها ذات ليلة، تذكرت كم عانى عندما أسرع بنقلها إلى المستشفى، حيث أجهضت في تلك الليلة المطيرة، وكان بوسعها أن تسترجع صورته وهو يستدير ليخفي قلقه حين حملت على النقالة، فما الذي بدله؟.

نهض، أطفا السيجارة في منفضة بالمطبخ، وفي طريق عودته إلى الصالة خاطب نفسه: لم تستطع أن تفهمني أبدا.ألا تقدر عشرات الضغوط اليومية التي يتعرض لها في العمل والشارع وسوق الخضروات والجيران والالتزامات الاجتماعية والسعي الدائم لتأمين المستقبل لأسرته؟ هذه المتاهة التي تشبه إحدى الألعاب الصينية..لها بداية ولكنها لا تنتهي أبدا.

حاولت من جانبها أن تشرك أصدقاءهم لحل مشكلاتهم، إلا إنها اكتشفت - بعد عدة محاولات - أنهم يعقدون المشكلة عوض حلها فأقلعت عن ذلك..إنها لا تكرهه.. ولكنها تشعر بان أحلامها لم يتحقق منها شئ.

نهض وجلب وسادة من الغرفة ونام في الصالة..دخلت هي إلى غرفة النوم، ناما وكلاهما مصمم على أن يذهب كل منهما في الصباح إلى حال سبيله.

في الصباح تأخرا بالاستيقاظ، وحين نهضا أخيرا التقيا وسط الردهة مسهدين، كل منهما يحمل منشفته، نظر كلاهما إلى الآخر وشعرا أن ليلتهما الماضية كانت قاسية، وان ما تصورا حدوثه في الصباح كان أقسى مما يستطيعان احتماله.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة