Culture Magazine Monday  05/11/2007 G Issue 221
سرد
الأثنين 25 ,شوال 1428   العدد  221
 
قصة قصيرة
إبراهيم مضواح الألمعي

 

 

(1)

سأضحك

تعابث صغيرتها، التي تضحك ضحكاً متصلاً، تبدو أسنانها، وقد فتحت فمها الصغير إلى أقصى ما يمكنها، فيضغط خدّاها الممتلئان على عينيها الصغيرتين، وينحسر الشعر عن جبهتها وهي تدير رأسها شمالاً ويميناً، فتبدو البراءة والدلال معاً.

كان صوت قهقهتها لذيذاً، وهي تضحك بكل ما يتسع له صدرها الصغير، شاركهما العبث قليلاً، توقَّف فجأة.

- يكفي؛ كثرة الضحك تتعبها.

- لا أحد يتعب من الضحك.

- لا تبدِّدي رصيدها من الضحك، فلا تجد في المستقبل سبيلاً إلى الضحك، وهي أحوج ما تكون إليه ..

- دعك من هذه الفلسفة السوداء، وجرِّب أن تضحك معنا.

- ليتني أستطيع؛ منذ سنين انتهى مخزوني من الضحك .. وسأبقى محروماً منه، بقية العمر..

- أجل. أنتَ لا تتفلسف، إنك تهذي ..

ضحك من غبائها حتى استلقى على ظهره، وهي تنظر إليه في ذهول، وما يزال يضحك حتى يغلبه النوم، فيفيق وهو يضحك، يغادر المنزل ضاحكاً ويرجع ضاحكاً، أصبح منظره ضاحكاً يقززها، كرهت أسنانه التي تراها أكثر مما ترى ملامح وجهه، أصبحت تصرخ وتبكي كلما ضحك، حاولت مشاركته الضحك، لم تفلح، فعادت للبكاء، وتمضي الأيام وهو يضحك وهي تبكي، وبينهما صغيرة ما تزال تبكي وتضحك.

(2)

مناورة

نظرتْ إليه بعينين عميقتين، تهزمانه لسبب لا تدركه، يقاوم، تبتسم، ترقب ردَّه، يتجاهلها، بينما قلبُه يلتفت إليها، شعر أن انتصاره لن يدوم، اقتربتْ منه خطواتٍ، يغطي الشعر المبعثر حاجبيها، يقف تماماً بمحاذاة رموشها الطويلة.

تصدُّ عنه، يفهم ما وراء صدودها، يتجاهل إقبالها وصدودها، ينشغل عنها بالنظر في الكتاب المفتوح بين يديه، تقترب منه تطل على صفحة الكتاب بين يديه، يلامس شعرُها وجهَه، وهي تنظر تبحث في صفحة الكتاب عن صورة تستحق النظر، فلا تجد ..

تدير وجهها جهةَ وجهِه، أنفاسها تلامس أنفاسه، تبتسم تطبع قبلة على خدِّه، بينما هو يلزم الحياد.

تتراجع وقد تكورتْ شفتاها، تتهيئان للبكاء، شعر بانتصار، وهزيمةٍ في آن، ألقى الكتاب، احتضنها، قبَّلها، يرفعها، يقذفها باتجاه السقف، تضحك بملء صوتها، يلقيها ثانية، تضحك، يستقبلها، تتشبَّث به ضاحكة، يجلسها إلى جواره، تشير إلى السقف، وترجوه: (فوق يا بابا .. فوق يا بابا)..

(3)

المريض رقم (7)

حاول قراءة نتائج التحاليل التي استلمها للتو من المختبر، لم يستطع فكَّ رموزها، تعلَّق نظره باللوحة المعلقة على باب العيادة: (انتظر يوجد مريض بالداخل)، جلس في المقعد الأقرب إلى باب العيادة، نقَّل نظره في أرجاء الغرفة، حضرتْ قصص المرضى الذين لقيهم أو سمع بهم في حياته، كل المرضى بدأت حكاياتهم على أبواب العيادات، وانتهت بهم في المقبرة، أسعفته ذاكرته، بكل مواجع المتألمين، وكل المفاجآت التي لم يكونوا ينتظرونها، أبطال الروايات التي قرأها، والأفلام والمسلسلات التي شاهدها.

شعر أن صالة الانتظار تتسع، لم يعد بوسعه رؤية المنتظرين الذين كانوا بجواره، يتسلل البرد من أطرافه إلى سائر جسده، قشعريرة تهزُّ جسده، يرتجف، تمر الدقائق ثقيلة، لم يستكع التشاغل عنها، عينها تتأرجحان مع بندول الساعة الجدارية، تنادي الممرضة: رقم (4) يراوده الأمل ألاّ تطول إقامة هذا المريض في العيادة، رقمي (7) هذا يعني مزيداً من الانتظار، تحرك قلبه مع مقبض الباب، كانت الممرضة تأتي وتذهب، لم يخرج المريض بعد، فكر أن يتجول في الممرات الفسيحة، ولكن قدميه عاجزتان عن الحركة، بقي في مكانه، وعادت عيناه تتأرجحان، مقبض الباب يتحرك، يفزُّ قلبه، فكر أن يستأذن الحاضرين ليدخل أولاً، تردد قليلاً، نادت الممرضة: رقم (5)، دخل أحد المنتظرين، ومؤشر الثواني يطرق رأسه، وبندول الساعة يؤرجح عينيه، يمضي الوقت ثقيلاً، تسعفه ذاكرته بكثير من الذين ذهبوا ضحية أخطاء الأطباء، طمأن نفسه: بأنّ هذا طبيب مشهور، ليس كسائر الأطباء، سيكشف له الحقيقة .. آه من الحقيقة، إني أخشاها كما لم أخشها من قبل..

يتحرك مقبض الباب، يتوجَّس، تُلقي الممرضة نظرة باحثة بين المراجعين، ثم تعود للداخل، يشعر بضيق في صدره، يملأ رئتيه بما أمكنه من الهواء، ثم يجتثه من رئتيه ويلقي به بين المنتظرين، يتصبَّب جسده عرقاً، تبرز الممرضة من جديد، يمتقع وجهه .. تنادي: رقم (6) ..

ينهض أحد المنتظرين، متثاقلاً، يدخل العيادة، يمرُّ الزمن ثقيلاً، يتحرك مقبض الباب، يخرج المريض، ينفث آهة عميقة وهو يغادر العيادة.

يضطرب في مكانه، يحدِّق في الورقة الصغيرة التي تحمل الرقم (7)، تبرز الممرضة تنادي: رقم (7)، يفرك الورقة بين يديه، بينما هي تتفرَّس وجوه المنتظرين، ترفع صوتها: رقم (7) ... (7) ... (7) ... لا أحد يجيب.

(4)

دهشة

تتّسع فوهةُ البندقية وهي تقترب من عينيه المحدقين، لاستيعاب المشهد، والأصبع المرتعشة تلامس الزناد، والوجه المبلَّل بعرق يتصبَّب من كل مساماته، يردِّد كلمات تتعثَّر بلسان أثقله الشراب، وعينين زائغتين أرهقهما الغضب .. كانت المرة الأولى التي تُصَوَّب البندقية جهة صدره.

لم يتحرك لسانه، الذي عقلتْه الدَّهشة، بدا له ابنه الواقف أمامه يعابثه، بواحدة من البنادق التي طالما أحضرها له ضمن شتى اللعب.

كان يشاركه فرحته كلما أحضر له لعبة جديدة، تقترب فوهة البندقية، يبتسم وهو يحتفل بيوم صغيره الأول في المدرسة، حزنٌ ينتابه كالذي يتملَّكه كلما أصابت صغيرة الحُمى.

الفرحة التي غمرته ليلة زواج ابنه، كانت أعظم الفرحات، كان يوشك أن يبتسم، ثانية، وهو يتذكر تلك الليلة، عندما لامست فوهة البندقية الباردة حنجرته الساخنة، لم يكن بوسعه الابتسام، الدم يملأ فمه، لم يعرف بعد هل ابنه يعابثه، كما كان في صغره، أم أنه يموت حقاً، مات وما تزال الدهشة في عينيه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة