Culture Magazine Monday  19/11/2007 G Issue 223
سرد
الأثنين 9 ,ذو القعدة 1428   العدد  223
 
أول يوم في ثلاجة الموتى
سمير مرتضى

 

 

تخرجت من كلية الطب منذ عدة سنوات، وجلست بعدها في البيت أنتظر التعيين أو النصيب..!! وذات يوم دق جرس الهاتف لأجد شخصا يقول لي: (تم تعيينك في مستشفى المواساة.. يجب أن تباشري غداً وإلا...!!).

قلت له:

(لا.. لا داعي ل(وإلا) هذه.. سأكون أول من يدخل باب المستشفى صباح الغد بمشيئة الله.. لم أنم ليلتها جيداً.. ألف صورة تعبر مخيلتي، وألف شعور يغمرني وألف (وإلا) قفزت أمام عيني.. ولذلك لم أذق طعم النوم..

جاء الصباح وجاء يوم العمل الأول.. عندي (بالطو) أبيض احتفظت به من أيام الجامعة.. حاولت أن أرتديه.. جيدا.. ما زلت أحتفظ برشاقتي.. أتأمل نفسي في المرآة.. لا.. يبدو أن زمن الرشاقة قد ولى...!! رميت البالطو جانباً لألحق بالعمل الجديد..

عندما وصلت المستشفى كنت حقا أول من وصل من الموظفين والممرضات والعمال.. لم أبال.. يجب أن أثبت جدي واجتهادي من أول يوم.. بحثت عن المكان الذي سأمارس فيه عملي.. سأكون صيدلية بإذن الله.. هكذا كنت أحلم طوال عمري.. واليوم سيتحقق الحلم..

سألت: أين سأعمل؟؟ لا أحد يعرف.. بدأ الموظف المختص يقلب الأوراق والدفاتر والمعاملات.. ثم نظر إلي بعد حيرة طويلة وقال: (إنه هنا.. هذا اسمك.. ستعملين تحت.. في البدروم.. في الدور الأرضي)

قلت: (هل هناك صيدلية في البدروم؟)

تأملني كاتما ضحكة أوشكت أن تفلت منه وقال:

(عفوا.. الصيدلية هنا.. خلف مكتبنا.. ولكن أنت ستعملين في البدروم... في ثلاجة الموتى..)

انتفضت أطرافي وتلعثم لساني وأوشكت قدماي أن تهويا بي.. تماسكت ولملمت مشاعري المبعثرة لأقول له:

(ثلاجة موتى.. ولكن.. أنا صيدلانية.. والموتى حسب معلوماتي يحتاجون للدعاء والترحم ولا يحتاجون إلى صيدلانية مثلي)

قال: هذا صيحيح.. ولكن.. لست أنا من وضعك في هذا العمل.. وإن أردت نصيحتي باشري عملك بضعة أيام ثم حاولي أن تطلبي نقلك إلى مكان آخر بالتفاهم مع مديرك)

قلت:

(عفواً.. ولكنني لا أصلح في هذا المكان)، قال بعد أن ألقى بظهره على الكرسي ووضع رجلا على رجل:) وهل أنا أصلح هنا.. وذاك هل يصلح هناك.. قولي لي سيدتي هل هناك شخص مناسب في مكان مناسب في هذا الزمان؟! إنها مسألة أكل عيش.. وعلينا أن نعمل في أي مكان وإلا)..!!

أطلقت تنهيدة من أعماق قلبي وقلت له: (ماحكاية) وإلا (هذه..؟ لا بأس.. أمري إلى الله..)

أنهيت إجراءات مباشرة العمل، ثم نزلت إلى المكان الذي سيضم خطواتي القادمة..

مكان كئيب.. إضاءة خافتة تبعث الرعب في النفس.. دخلت الغرفة التي تحتضن الثلاجة، وأنا أجر قدمي جرا.. وجدت زميلة تنتظرني.. أفهمتني أن عملي سهل جدا..

(سيأتي أهل المتوفى بورقة يفترض أن تطابقيها ببيانات موجودة على باب الثلاجة التي تضم جثمان متوفاهم.. وإن تطابقت البيانات فعليهم عند ذلك أن يأخذوا ميتهم من هنا) أطلقت زميلتي ضحكة عالية، وهي تحاول أن تزرع الشجاعة في قلبي لتضيف قائلة:

(لن تلمسي أمواتاً ولن تحملي جثثا.. فقط ستتعاملين مع بيانات)

قالت كلمتها وهي تتوجه نحو الباب.. أطبقت على يدها بفزع وقلت:

(إلى أين)

قالت: المعذرة.. لدي مشوار تم تأجيله أربع مرات لحين مباشرتك العمل.. لا تقلقي...

سأعود خلال ساعة وربما أقل.. إلى اللقاء)

وتبخرت من أمام عيني في لحظة وتركتني زائغة العينين أشم رائحة الموت من كل اتجاه..

هربت من الغرفة.. سحبت كرسيا وجلست في الممر.. وبقيت أشرب أخماساً في أسداس.. بل في أرقام كثيرة بلا نهاية.. ما هذه الورطة..؟ هل سأقول لأمي وأبي وإخوتي أني أعمل حارسة على بوابة ثلاجة الموتى..؟ هل الموتي بحاجة إلى من يحرسهم؟

وهل أفنيت عمري وسهرت الليالي لأكون في هذا المكان..؟ وأين أذهب بعلم الصيدلة والأدوية والكيمياء وكل ما تعلمته؟ هل أذيبه في كوب ماء وأشربه ؟ انتبهت إلى واقعي، صمت عميق يكاد يحاصر المكان لولا أصوات بعيدة تتسلل إلى أذني.. بدأت الوساوس تنبت في محيطي.. كأني سمعت طرقا من داخل الغرفة..!! هل هناك من يهمس باسمي..؟!

كأني رأيت شيئاً يتحرك كالبرق أمامي ليختفي..!! يا إلهي.. هواجس وظنون وأوهام خلقتها بنفسي لأداري إحباطي يطوقني وتخنقني...

وفيما أنا أسيرة هذه الهواجس إذا بصوت عال محتد يصرخ بي:

(السلام عليكم).. قفزت من الكرسي وأنا أردد (وعليكم السلام) ووجهي يدور في كل مكان أبحث عن هذا المخلوق الذي بدد وحدتي..

رأيت نفسي فجأة أمام رجل ضخم يحمل ورقة صغيرة جدا يقدمها إليّ ويقول:

(تفضلي)

شعرت وكأن قلبي قفز بين يدي.. هل هذا حلم أم واقع..؟ لم أقرأ الورقة.. سألته فقط...

(ما هذه)

قال: (إنه جدي.. اختفى منذ شهر ونحن نبحث عنه وربما يكون هنا في هذا المكان)

قلت وقد بدأت أشعر بأنفاسي تعلو وتملأ المكان:

(والمطلوب؟)

قال بغضب ظاهر:

(سلامة فهمك.. المطلوب أن تفتحي جميع أدراج ثلاجتكم العامرة وتبحثين عنه)

قلت وأنا أظن أني أرد له غضبه بما يستحق:

(المعذرة.. سلامة فهمك.. أنا لا أعرف جدك ولا شكله)

أدخل يده بسرعة في جيبه ليخرج صورة وضعها أمام بؤبؤ عيني وقال:

(ها هو)

قلت بارتباك ظاهر:

(تعال إذن وابحث عنه بنفسك)

قال وقد فطن إلى حقيقة الأمر:

(عفوا.. أنت هنا لهذا العمل.. وقد تحوي ثلاجتكم العامرة نساء لا يصح أن أنظر إليهن.. ولهذا سأعود إليك بعد قليل لأخذ الإفادة...)

وهرب من أمامي قبل أن أنطق بحرف..

تأملت صورة جده، ثم أطلقت نظري في أرجاء الثلاجة التي تحوي أكثر من عشرين درجاً، تراني هل أتجرأ وأفعلها؟ ويح قلبي.. أنا التي يهلع قلبي لذكر الموت أجد نفسي فجأة أمامه، وفي أكثر من صورة؟ هل أنسحب؟ نعم سأنسحب.. هذا أفضل.. أفضل..؟ لمن..؟

تخطر في ذاكرتي كلمة (وإلا) التي تددت على مسمعي أكثر من مرة بسبب هذا العمل.. ألم يقل ذاك الموظف أن المسألة (أكل عيش)؟ أطل في الصورة مجدداً.. أجد قدماي تقوداني إلى داخل غرفة الثلاجة.. أقترب من أول درج.. أقرأ كلمة (مجهول.. حادث سيارة) مكتوبة على ورق معلقة بإهمال على مقبض الدرج..

المطلوب مني أن أفتح الدرج وأفتح عيني جيداً وأتأمل الموت.. ألاحق تفاصيله..

أستكشف بصمته.. مطلوب مني أن أقارن الموت بصورة.. والمجهول بعلامة استفهام..

يا الله.. ماذا أفعل..؟ قلبي يكاد يتوقف.. أمد يدي إلى الدرج أحاول سحبه..

إنه يترنح في الهواء.. أتراه فارغا؟ أسحبه بهدوء...!!

يا الله.. زلزال يضرب كياني.. إنها جثة طفل صغير.. أتأمله بخشوع.. كل كياني يبكي.. أي جبار عادت دهس طفولتك وبراءتك أيها الصغير؟ أي أرعن أخرق قطف بسمتك وداس فرحة أبويك وقذف بك إلى أحضان الموت...؟ أحاول أن أمد يدي إلى جبهته لم أتردد.. لأول مرة في حياتي ألمس ميتا، وأنا التي كنت أتحاشى الاقتراب من مريض.. لمست جبينه البارد.. عبثت يدي بشعره.. قوة غامضة دفعتني إلى تقبيل خده.. شعرت أني أقبل عصفوراً صغيراً..

صوت يخترق أذني فجأة.. (عفواً.. مكانك ليس هنا).. نظرت خلفي فإذا به ذاك الموظف الذي قذف بي صباحا إلى هذه الثلاجة..

قلت وأنا أمسح دموعي وألملم مشاعري: (ألم تقل لي صباحا أن مكاني هنا وأن كشوفاتك تؤكد ذلك)

قال مرتبكا: (أرجو أن تعذريني.. يبدو أني لم أغسل وجهي جيدا هذا الصباح، ولكن عندما سألوا في الصيدلية عن الموظفة الجديدة اكتشفت خطئي.. السماح منك مرة أخرى)

لم أفرح بالنبأ... لم أفرح بالصيدلية.. نظرت إلى جثمان الطفل من جديد.. قلبي مذبوح وكياني مشروخ، ويدي لا تريد أن تفارق وجه الطفل.. قلت للموظف:

(ما حكاية هذا الطفل؟)

قال: لا توجد حكاية.. طفل مشرد كان يتسول عند إشارة مرور دهسته سيارة طائشة.. لا أحد يعرف شيئا عن هذا الطفل ومنذ سنة والجثة هنا والشرطة ترفض دفنها قبل التعرف على ذويه، وحتى من ارتكب الحادث ما زال حرا طليقا.. على أي حال..

ارجوك.. يجب أن تذهبي إلى الصيدلية فورا قبل أن تحدث لي مشكلة...)

قال كلماته تلك واختفى من أمامي.. وبقيت أنا وهذا المشرد الصغير.. يا لوعتي عليك أيها الملاك.. عشت مشردا وتموت مشرداً...

عشت فقيرا وتموت مكسورا لتغفو وحيدا في ثلاجة من الصقيع.. قتلك الظلم وهرب.. دهستك القسوة واختفت...

ماذا أفعل الآن..؟

أما الآن صيدلانية فعلاً.. ومكاني ليس هنا.. ولكن.. كيف أترك المكان وفؤادي هنا.. وكياني هنا.. وإنسانيتي هنا.. كيف أغادر وعصفور يبحث عن الراحة ميتا ولا يريدونها له قبل أن يستكملوا أوراقهم.. هل يتصورون أن ضمير القاتل سيستيقظ بعد سنة ليقول: أنا من دهسه.. خذوني..؟ لن أترك يا صغيري تموت مرتين.. سأسعى إلى إخراجك من هذا القبر البارد.

انحنيت عليه وقبلته من جديد.. ودموعي تغسل وجهه.. وهمست في أذنه: (أقسم لك يا صغيري أني لن أتركك هنا) وأغلقت درج الثلاجة وكأني أغلق قبرا على روحي.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة