Culture Magazine Monday  02/06/2008 G Issue 250
نصوص
الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1429   العدد  250
 
قصة قصيرة
فلسفة المطر
عامر ملكاوي

 

 

ذات شتاء.. لابساً سكون الليل في أوصال قرية أسدل عليها الظلام عباءة الصمت، منتعلاً قلقي الفطري، متنكراً بطفولة يرتديها معطف من كهولة، تشي بها عكازة، استند إليها زمن مقيت من الاحتضار، أخرج من بين جدراني صحبة هارمونيكا حزينة تعزف لحن الانتظار.

***

أجمع أشيائي كمرتحل غريب، يبحث في وجه غيمة ليلية بيضاء، عن زهرة لوز تحمل في تلافيف أوراقها ذاكرة ناصعة الشقاء. على إيقاعات المطر، تناقلت خطاي كراقص يحترف البقاء على قيد الألحان في أزقة قتلها السكون، تعلقت على جدرانها أحلام الخائبين.

مبهوراً بجمالية مهرجان ريفي مبلل بريق السماء، فاجأتني هارمونيكا الانتظار بمعزوفة مطرية حزينة، عذبة النغم، مللت انتظارها لفرطه، لم تكد تسمعها الغيوم متخمة الشجن، حتى استمطرت الغزير من الدمع، لأقف مذهولاً وسط مسرح أوبرالي، تتراقص على جليده أنفاسي الدافئة، رفقة إيقاعات تصاحب قبلاً سماوية ترسمها قطرات الشوق على جبين الأرض.

غمرة سكون بعد صخب. تثاقلت خطى السماء في عدوها نحوي، تكاثفت حبات الأمل في عيني، أمامها، امتقعت ألوان الأشياء من حولي. فضاء ضبابي اختزل أسطورة بهاء تلونت بدهاء طبيعة صامتة زج بي وسط لوحة رمادية زاهية لبست المكان، فزرعتني إلى قدمي بثبات دهش كبلته سلاسل الذهول.

استوقفني تلك اللحظة ما تختزنه الطبيعة من جنون يضعها خارج أطر المنطق، فوق أنسجة الخيال، إذ تستدرجك في أوج شهوتك لمفاتنها، لتلبس في حضرتك ثوب العزاء. فبعد فصول انتظار، يأتيك الشتاء مبللاً بلهفة اللقاء، يهديك سكوناً سرمدياً تتوسد دفأه، وتغفو على صوت أحلامك المعلقة بصقيعه، وفي قمة احتفالك، يباغتك بنوبة استنفار، تقلب أركانك، لتبقى على قيد الموت.

لكن ما حدث تلك الحزة، ضرب من استحالة، لم يبلغ بها الجنون من قبل أن تمرد عليه، ما كان من زهو جمالها، ورقة مآلها قبل هنيهة، لا يذهب إلى جنونها الرتيب في شيء. خارق ما أتت به، ينذر بمشهد استثنائي يتعدى ما أضمرت من تقلب أهوائها.

أسير مجهولها، وقفت على حافة الهذيان، مأخوذاً بهول ما تبدي لي من غرابة مشهدها، تلك الطبيعة العاشقة الغاضبة، الغادرة، الحزينة، سحرتني بمزاجياتها العشوائية، أحاطتني بصمت قتيم، حلق بي عبر أثير غرائبي، حط بي في مساحات الشعور، معلناً تخمة الحواس.

لملمت شتاتي بين تناقضاتها، في محاولة عاجزة لأن أستجمعني. خلدت إلى عقلي أخيراً، أحاول التعلق بتلك الشعرة التي قد تعيدني إلى وهم الوعي...

من خلف ستارة ضبابية راكدة، نبس بي صوت حفيف، به شيء من لغط موسيقي، عبرني كرعشة انتشاء. تبدد حاجز الأسئلة الضبابي الذي أطبق على كل الأجوبة خلفه، لأقف أمام وجه أنثوي من مطر، بجسد أميرة حسناء، لم تزل حبيسة الخرافات والأساطير. وجه ثلجي، به شيء من بريق الماس، لا يجعلك تقوى على تحديد ارتساماته، أو إحاطة تفاصيله الغائرة. بكلمات تختبئ خلف جدار من خوف يأخذ شكل فضول، سألتها:

- من أنتِ؟

بنعومة المطر ودفء الشتاء، أجابت:

- أنا حارسة المطر.

- من أين أتيتِ؟

- من حيث يولد المطر.

- لم أعلم بوجودك من قبل.

- هذا صحيح، فلم يسبق لي أن صاحبت المطر أثناء نزوله.

- ولم تفعلين ذلك الآن؟

- من أجلك...

صمت قليلاً، أحاول الصمود أمام دهشتي مما قالت:

- أحقا أنتِ هنا من أجلي؟!

- نعم...

- ولكن لماذا؟

- علمت أنك مغرم بالمطر، وأنك تعبر الفصول على متن الحنين في انتظاره.

- ومن أخبركِ بذلك؟

- هو...

- المطر؟

- نعم... المطر.

- أخبرني أنك شغوف به، تتلهف للقائه كلما حضر، تخرج من بيتك صحبة آلتك الموسيقية، تعزف ألحاناً تداعب بها دموع حزنه.

بشيء من الدهشة والذهول، سألتها:

- أوكل ذلك يعرف عني المطر؟

- نعم...

ارتسم الصمت على شفتي مجدداً، فاستدركت ملاحقاً إياها بسؤال آخر:

- لكنك قلت إنك حارسة المطر، فمما تحرسينه؟

على عجل، وكأن سؤالي ارتطم بجملة استبقت جوابها:

- أنت باذخ الفضول، وفير السؤال، وأنا ما أتيت إلى هنا إلا لأسمع منك أجوبة.

مرتبكاً، بشيء من الاعتذار، قلت لها:

- أستميحك عذراً، لكن الأسئلة هي السلاح الوحيد في مواجهة فضول أرعن.

- إذن دعني أسأل.

- تفضلي.

- أيمكنك أن تخبرني عن سر تعلقك بالمطر؟

- مؤكداً واصلت الحديث:

- إنه الجمال، لا شيء في هذا الوجود يضعني أمام الجمال سوى المطر. إنه هجين الحزن والحنين.

- أو تظن أنك ترى الجمال فيما ترى من المطر؟

أربكني السؤال، لذت إلى الصمت مجدداً، لأجيبها مؤكداً:

- نعم، فلا شيء بجمال المطر.

رمقتني بعينين سكنتهما مدائن الحزن الأزلي بشوق جارف تجلى في ثنايا أجفانها المغسولة بالحنين، ثم قالت: فيك الجمال وأنت منه، فلا تبصر غير أعماقك إن كنت مشغوفاً بأسرار الخفاء. وأطرقت تذوب في أنفاس السكون الهادئة، وذهولي تركتني جاثياً على أسئلتي، عند أقدام أجوبتها الحافية، مضت في طرفة عين، حاملة معها جمالاً لن أبلغه يوماً، تفصلني عنه مسافة روح ومطر. غادرتني ولم تزل أصداء صوتها الأثيري تهز أركان المكان، وعندما أغمضت على عيني أجفاني، مذعناً لترتيلة سحرها المقيم في أحشاء الروح، لم أر سوى غيمة تبكي تراب، فسال دمعي.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة