Culture Magazine Monday  24/11/2008 G Issue 262
شعر
الأثنين 26 ,ذو القعدة 1429   العدد  262
 

(جيتنجالي) ..
أغنيةٌ ضحّى بها الموت
فيصل أكرم

 

 

(كلَّ صباح

عندما أحيي العالم

يتهدّج قلبي

وتمتلئ عيناي بالدموع:

نعم.. الآن يمكنني أن أموت...

آه. لا..

لا يا إلهي.. يا اله الموت والحياة

أرجوك اجعلني أحيا ولو قليلاً..

ضمّيني، بقوة، يا أمّي العزيزة

لا تتركيني أغرق في مأساتي

أعدك ألاّ أتكلم بيأسٍ مرّةً أخرى..)

هي سيرةٌ حزينةٌ لفتاةٍ هنديةٍ ماتت قبل أن تعرف أنها شاعرة. كانت تعرفُ جيداً أنها ستموت، ولكن.. لم يخطر ببالها أبداً أن أحداً ما سيهتم بما تكتبه على أوراق صغيرة وتخبئه في حجرتها الباردة التي ترقد بداخلها في انتظار الموت.. كانت تكتبُ بوحَ خاطرها وأحلامها وأحزانها، وتتعمّد إخفاء ذلك تحت الملاءات، وخلف المقاعد، وداخل أغطية الوسائد.. حتى عثرت أمها على كل ذلك، ولكن.. بعد موت الشاعرة.

اسمها: (جيتنجالي)، ومعنى الاسم في اللغة الهندية: (أغنية التضحية).. وهو اسم الكتاب الشهير لطاغور..

قرأتُ حكاية جيتنجالي في أحد الأعداد الماضية من مجلة (كتابات معاصرة) ولذلك قصة طريفة، فقد وصلتْ إلى المجلة (مطلع العام 2008) رسالة موقعة باسم/ علاء خالد وسلوى رشاد (من الإسكندرية) بتاريخ 6/7/1991م، غير أنها لم تصل إلى مقرّ المجلة في بيروت إلاّ بعد سبعة عشر عاماً!

فما كان من رئيس التحرير -الشاعر الياس لحود- إلاّ أن نشرها كما هي، مع كلّ ما تحمله من ألمٍ وحزنٍ، ومع إشارة منه توضح أنها قد مضى على إرسالها سبعة عشر عاماً!

يقول علاء خالد: بعد موت جيتنجالي، وجدت أمها تلك الأشعار فقامت بعرضها على المجلات المهتمة بالأدب إلى أن لفتت نظر بريتش فاندي الشاعر المسؤول عن الصفحة الأدبية في (الصحيفة الأسبوعية المصورة للهند) فقام بنشرها في صفحته لتلاقي اهتماماً كبيراً من القراء، ثم اهتم جوردن فوكس مدير (دار المشربية) بتجميعها ونشرها سنة 1982م بمساعدة والدة جيتنجالي والشاعر بريتش فاندي..

وفي توصيف لتجربتها، كتب يقول: كونت جيتا –وهو اسمها المختصر- مجموعة من العلاقات الثاقبة مع كل الأشياء المحيطة بها، مع الشمس لحظة الغروب، والقمر في نهاياته، ومصباح الزيت، وحتى مع الكلب الصغير (موتي) والغراب (أوسكار).. وأخيراً مع الموت الذي تناديه (يا صديقي المجهول):

فلتلتصق الأعين المعلّقة

مرّةً أخرى

على الباب

ذلك الباب الذي يعلم الميعاد

والذي يتصرّف ببعض الوقت

لشخصٍ

يحتضر..

وأثناء انهيار جسد جيتا، كانت تبني جسداً من الكلام الإنسانيّ، نفخت فيه من موتها، وكان السرطانُ لعبة الطفولة المحببة لها. والمقدّرة عليها.

الواقع أنني توقفتُ كثيراً عند تجربة جيتنجالي المؤثرة، وقصائدها المكتوبة بأصدق ماءٍ يمكن أن يكون حبراً للشعر، وهو (الموت المنتظر).. ولكني أصبتُ بالكثير من الأسى على هذا الواقع الممتلئ قسوةً.. فكأنما الموت أراد أن يضحّي بهذه الشاعرة مرّتين.. ففي حياتها لم تكتشف أن ما تكتبه كان شعراً، وحتى بعد موتها فلم يحالف الحظ أشعارها لتكون في بؤرة الضوء وقتاً طويلاً تستحقه بكلّ إيمان.. والدليل على هذا الحظ العاثر، أنّ – حتى - الرسالة التي تحتوي على ترجمة أشعارها إلى العربية، تتعثر في طريقها من الإسكندرية إلى بيروت عمراً يفوق عمر الشاعرة نفسها!

وحين بحثتُ عبر (الإنترنت) عن اسم (جيتنجالي) فوجئت بأن ديوان الشاعر الهنديّ – العالميّ/ رابندرانات طاغور، والذي كان سبباً في حصوله على جائزة نوبل عام 1913م، وكان سبباً في تسمية جيتنجالي على اسم هذا الديوان أيضاً.. هو نفسه –ربما- كان السبب في ضياع الشاعرة الرقيقة، وضياع أشعارها واسمها.. في حين كان ولا يزال التصاق الاسم بالديوان الشهير.. لا غير!

تقول جيتا:

(لقد سُمّيتُ جيتنجالي

على اسم الكتاب الشهير لطاغور

ومن بعد هذه التسمية،

وأنا أدعو وأصلّي..

آهِ، فلتساعدني يا إلهي

لأكون جديرةً بهذا الاسم)

وآهٍ، كم كانت هذه الإنسانة جديرةً بشيءٍ –ولو قليلٍ- من الفرح، هذه الشاعرة التي ضنّ عليها الموتُ حتى بارتداء فستانٍ جميل كانت والدتها اشترته لها لترتديه في حفل عيد ميلادها السادس عشر –كما في العادات الهندية- فتقول:

(وأخيراً تحقق الحلم،

وامتلكتُ ثوباً معلقاً داخل دولاب ملابسي

تماماً، كما كنتُ أحلم طوال حياتي..

ثوبٌ اقتُني بالكثير من الحب

تحسستُه..

وسرعان ما أعدته إلى مكانه

فأنا لم أشأ الاستسلام لغوايته لي بارتدائه

فهو لا يزال هدية عيد ميلادي

الذي لم يأت بعد..)

ويعلّق المترجم:

جيتا لم ترتد أبداً ثوب عيد ميلادها. إذا أنها، قبيل أن ترتدي الثوب لتستقبل حفلة عيد ميلادها.. انهارت.. ونُقلتْ إلى المستشفى بعربة الإسعاف، حيث لم تعد ثانيةً إلى البيت.

***

(أيها النوم:

متى التقينا آخر مرة؟

أنا وأنت.. أصبحنا غريبينْ

بعد أن كنتَ قريباً مني،

وتضمّني،

وتأخذني إلى التلال البعيدة

وتتركني أشيّد قصوراً في أحلامي..

الآن كلّ شيء يبدو غريباً،

وأتذكّركَ بشكلٍ غامضْ.

الآن هُجرتُ،

وأصبحتُ وحيدةً بذكرياتي

مع ذاك الشيء الجميل..

الذي يُدعى: النوم).

نامي يا صغيرتي المعذّبة.. ف..والله العظيم، لا أرى شيئاً يليق بشاعرةٍ رقيقةٍ مثلك.. سوى النوم الجميل الهادئ، براحةٍ واطمئنان.

f-a-akram@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة