Culture Magazine Monday  24/11/2008 G Issue 262
سرد
الأثنين 26 ,ذو القعدة 1429   العدد  262
 

مدائن
الطيب صالح.. ذاكرة القرى والمدن اللامعة بين كرمكول ولندن

 

 

إعداد - عبدالحفيظ الشمري

عمد الروائي العربي الطيب صالح ومنذ أن صاغ مشروعه الأدبي الإبداعي عمد إلى اقتفاء حساسية الحكاية الشعبية.. تلك التي ظل يعتقد أنها هي الوسيلة الوحيدة لقيام العلاقة بين الكاتب والمتلقي، ففي روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) و(عرس الزين) و(مريود) وروايات أخرى سكن الإنسان البسيط وجدانه، حتى بات البطل المفعم بسيرة الريف البسيط ينطق أصل الحكاية وفصلها، فلم يعد للقارئ أن يميّز بين الطيب صالح وبين أحد الشخوص بأعماله الأولى.

فالمكان كان له الحضور القوي، فهو الذي أعاد رسم تفاصيل الحكاية البكر بين ابن الريف الذي هاجر طوعاً إلى تلك المنافي البعيدة لتنفلق حياته إلى عالمين متناقضين هما: (الريف) و(المدينة).. ففي الريف بنى البطل البسيط حكايته الأم، فدوّن ما يستحق الذكر منها وذلك رغبة منه في صياغة حكاية الأهل العائد إليهم محملاً بشوق دفين لا يمكن له أن ينضب، لكن الحكاية البسيطة حملت في تضاعيفها نقداً مبطناً لبقاء الأشياء على ما هي عليه وكأن الحياة بين الأهل مجرد حكاية قديمة لا يجوز المساس بها.

أما في المدن الشمالية المشبعة بالحضارة، الملفعة بالضباب والغيم والحياد الإنساني الأليم، فقد عثر البطل والكاتب على حد سواء على سلوة مؤقتة عن بكائياته.. حيث نراه وقد استبدلها بشيء من الأحزان العصرية اللامعة.

الطيب صالح لا يمكن له أن تفكر بأن المدن هي المهرب أو الملاذ.. إنما قد يراها على هيئة محطة نعبر منها نحو تخوم الحقيقة البعيدة هناك.. فالقرية كرمكول هي ملهمة الكاتب وإن حاول أن يتجاوزها إلى بلاد أخرى، لأن العربي يظل أسير حكايته القديمة.. فلا بد من العودة إلى المنابت الأولى، حيث ألهمته هذه القرية الغافية على ضفاف النيل قرب مدينة (الدبة) الواقعة شمال السودان.. فقد عني الطيب صالح في بناء معادلة (الإنسان وبيئة)، لنراه وقد قارب كثيراً بين الإنسان البسيط، وبيئته البكر على نحو استعادته للذكريات ونبش الحكايات حول (كرمكول).. القرية التي لم تستطع عاصمة الضباب (لندن) أن تمحوها من الذاكرة القروية.. حتى وإن عاش (البطل - الكاتب) ثلاثة عقود كاملة في نأي وغربة، فإن لم تأسر الطيب صالح القرى على نحو كرمكول والدبة فإن النيل سيكون ملهماً قوياً لذاكرة القروي الذي عني بتفاصيل الحكاية الإنسانية المعبرة.

فكما أشقت المدن أهلها، لم تبخل القرى على أبنائها بذات الشقاء أو أقسى منه بكثير، لنطالع (سيف الدين) و(أحمد إسماعيل) و(الزول عبد الحفيظ) وهم يقاومون سطوة الحياة حينما أدوا أدوارهم في الحياة الريفية البسيطة أبطالاً في الحياة بشكل عام، وفي الرواية بشكل خاص، فلم يتخل عنهم الكاتب لنراه وقد وثق كثيراً بحسن روايتهم للعديد من الحكايات الشيقة، لتتساوق في اتجاه الإلهام صور البهاء الذي يسكن الذاكرة رغم ما قد يكتنف تلك الحكايات من مواقف أليمة، وأحداث مفعمة بالعجز لكنها في الغالب الأعم تحمل صورة الصدق.

يبرع الطيب صالح في تسجيل حضور القرية في بناء الإنسان، حيث النشأة الأولى، والخطوة المتوجه عادة بعثرات البدايات، لكن سرعان ما تتدارج الخطى على أديم أرض تحفل بالمحكي، وتحبل بالقصص الأثيرة لدى الحكاء المفوه.. ذلك الذي يساوق المقولات جنباً إلى جنب إمعاناً في تقديم رؤية إنسانية فائقة التكوين. فالقرية (كرمكول) والسودان بنيليه الأزرق والأبيض، والطيب صالح بهجرته وببلاد الضباب يشكلون عالماً بانورامياً يصف حياة (المكان) ويسرد حكايته الطويلة منذ أن خلق الإنسان.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة