Thursday 17/10/2013 Issue 14994 الخميس 12 ذو الحجة 1434 العدد
17-10-2013

ظاهرة غير جميلة أمام مظهر جميل

ماذا يدور في خاطرك وأنت ترى معلماً حضارياً جديداً يشع بالذوق والجمال - مثل منتزه الملك عبدالله في الملز ونوافيره الجذابة - يتعرض للتشويه (قليلاً أو كثيراً حسب مصدر الأخبار) وهو لمّا يزل في أسبوعه الأول؟

من المؤكد أنك سوف تتحسر على ما أنفق فيها من مال وجهد، وتتأسف على الجهل والرعونة التى قبحت هذا الجمال. من فعل هذا؟ لا أرى مصدراً للتحريض على هذا الفعل سوى أن الجهل والحرمان تضافرا معاً ليدفعا صغار السن إلى هذا العمل. وربما ليس صغار السن وحدهم، فقد يشترك معهم أولياء أمورهم من خلال ما يبدونه من اللامبالاة. فقد حدث شيء شبيه بذلك فور تدشين كورنيش جدة الجديد قبل حوالي العام؛ إذ إن مستخدميه فرشوه ليس بالورود بل بالمخلفات، دعونا ننظر لهذه الظاهرة نظرة محايدة دون أحكام مسبقة. في أول أمر استخدام المصاعد الحديثة - في المرافق العامة خاصة - كان مما يثير الانزعاج لعب الأطفال وبعض المراهقين بأبواب المصاعد مابين فتح وغلق وصعود وهبوط وشخبطات على جدرانها...الخ. هذه الظاهرة تقلصت - إن لم تكن اختفت. ولكن هل كان تقلصها بفعل تحول في السلوك الاجتماعي؟ لو كان الأمر كذلك لما برزت هذه الظاهرة من جديد، الواقع أن ما حصل لهذه النوافير لا يختلف عن سلوك الأطفال مع أي لعبة جديدة. إن الطفل (أو الصبي والصبية) من شدة النشوة يلعب بها (حتى الثمالة) أي حتى تتكسر أو تخرب. إنه يريد أن يفرغ كل ما اختزنه من طاقة الرغبة في الاستمتاع بشيء جديد لم يكن ألفه من قبل. ربما يجعلنا ضرب المثل باللعبة نفهم خلفية التخريب الطفولي. بعضنا يميل أحيانا إلى التعجب من كون هؤلاء الصغار (ومن ثم أولياء أمورهم) لا يفعلون الشيء نفسه في البلدان التي يسافرون إليها. هذا التعجب يزول سريعاًَ عندما نتذكر أمراً واحداً: إن الذين يسافرون إلى الخارج أنهم يجدون في تلك البلاد ما يردعهم من الرقابة الواعية والأنظمة التى تطبق بصرامة. ليس الجهل الذي أعنيه هنا هو الأمية، فكم من أمي لا يقرأ ولا يكتب - ونسميه جاهلاً - هو أوعى من متعلم. إنما الجهل الحقيقي هو انعدام الوعي بمعاني الأشياء وقيمتها خارج نطاق المحيط الشخصي الضيق الذي يتعايش معه الفرد كل يوم فيما يلمسه ويطعمه ويلبسه ويراه وغير ذلك من المدركات الحسية الأخرى.

هذا النطاق الضيق يتضمن معنى الحرمان. إنه الحرمان من إدراك عوالم أخرى خارج هذا النطاق؛ إذ إن الحرمان ليس ناشئا بالضرورة عن تواضع الحالة المادية للأسرة أو بيئة الحي الذي تعيش فيه الأسرة، فهذا يمكن أن يكون أيضا حال من يعيش في وسط أسري لا يولي التنشئة الاجتماعية للأطفال أهمية تذكر، بل يحصرها بين جدران المنزل وفي تلبية الحاجات المعيشية. لذلك فإن الطفل أو الصبي (أو الصبية) لا يعنيه ما هو خارج نطاق إدراكه الحسي المحدود مما يجذب الانتباه من جماليات في الأماكن العامة. وعندما يواجهها لأول مرة يراها كالغريب الذي يستثيره أو يبهره كما ينبهر بلعبة جديدة. الفرق الوحيد هو أن الانبهار في حالة اللعبة فردي، وفى حالة الحديقة أو الكورنيش يحتاج الانبهار الصبياني إلى مجموعة يشجع أفرادها بعضهم بعضا لإدراكهم أنها ليست ملكاً لهم. وعندما يكون الأطفال أو الصبيان برفقة الأهل يشعرون بالأمان وتزول عنهم رهبة الخوف، فيلعبون كما يحلو لهم - وهذا شيء طبيعي. أما غير الطبيعي فهو اللامبالاة التى يبديها الأهل تجاه عبث أولادهم. لا ريب أن الأهل - وهم المحيط الذي نشأ فيه أطفالهم - يحملون النطرة نفسها إلى هذه الجماليات، ومن ثم فهم لا يقدرون قيمتها وواجب الحفاظ عليها. لكن عاملاً آخر ربما يكون له التأثير نفسه، وهو عامل العاطفة، كما لو كان لسان حالهم يقول: (ليش أحرم وليدي من التمتع بشيء معروض للعموم؟). ولو ترجمنا مقولة هذا اللسان إلى السؤال التالي (مادام العبث متعة فهل يجب أن نحرم الأطفال منها؟)، لكانت الإجابة التي يجب أن تقال في اللوحات الإرشادية وعلى لسان خطيب مسجد الحي والمربين في المدرسة وغير ذلك من مصادر التوعية والإعلام هكذا:

- تشييد هذه المنتزهات كلف أموالاً طائلة، وتخريبها يكلف أموالاً طائلة أخرى.

- هذا التخريب يشوه المنتزه ويسلبه جاذبيته، فينصرف عنه الناس ويصبح قليل الجدوى.

ومع أن الوعظ والتوجيه ضروري، إلا أنه لا يكون كافيا إذا لم يتمم بالرقابة والضوابط. البعض اقترح مثلاً رسم دخول لمنتزه الملز وهو اقتراح ربما يكون جميلاً لو كان هذا المكان يخدم غرضاً متخصصاً أو سياحياً، لكن الغرض من مثل هذه الحدائق أن تكون متنزها عاماً ورئة تتنفس منها المدينة، كما أن في ذلك تنمية للذوق الجمالي العام. أما إدخال الرسوم فسوف يحرم شريحة مهمة من شرائح المجتمع غير قادرة على الدفع قد يكون أفرادها من سكان الأحياء القريبة من المنتزه. الجدوى في رأيي تكون أكبر والضرر أقل لو كان هناك - بجانب التوعية العامة - رقابة يقظة مستمرة وطوافة من قبل أفراد يلبسون زياً رسمياً، وغرامات على العبث الذي يؤدى إلى ضرر وإعلان ذلك في لوحات واضحة للعيان. ربما يصعب التطبيق، ولكن يكفي العلم بأن المخالفة يترتب عليها عقوبة ما. لا أعتقد أنه ينبغي لنا أن نقلل من وزن هذه الظاهرة بدعوى أنها تحدث في أماكن محدودة؛ فهي في الواقع جزء من ظاهرة أعم: هي اللامبالاة أو الاستخفاف بجدية اللوائح والتعليمات أو بالأسلوب الصحيح لاستخدام المرافق والأماكن العامة. وفي هذا نحن حريصون على أن نصل إلى ما نريد بسرعة وبأي شكل، متكلين على (سموحة) الطرف الآخر، ولكننا لا نلتفت إلى الضرر العام أو الأذية للآخرين (نراهن بالمحبة على المغبة). كيف اكتسبنا هذه (الخاصية) - وديننا الحنيف يوجهنا بأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن النظافة من الإيمان؟ منذ عشرات السنين وهذه الظاهرة تتكرر، ومنذ عشرات السنين والتعليمات تعمم، ولكن بلا جدوى. هذه الجدوى لا تتحقق إلا بالجدية في تنفيذ الأنظمة وتطبيق العقوبات على مخالفيها - ولنا في (ساهر) خير مثال. على أن الجدية في التطيبق يجب أن تعضدها مساندة أخلاقية تتمثل في تكرار النصح والإرشاد في خطب المساجد وفي دروس المربين.

 
مقالات أخرى للكاتب