Tuesday 24/12/2013 Issue 15062 الثلاثاء 21 صفر 1435 العدد
24-12-2013

«الفن وقبيلة أنزور»

استمعت لمقابلة للمخرج الشركسي السوري نجدت أنزور يتحدث فيها عن فيلمه الذي مولته على الأرجح المخابرتان السورية والإيرانية، وهو “ملك الرمال”، و حاول فيه النيل من تاريخ المملكة، تاريخ وحدتها وتاريخ موحدها، وهو فيلم كثر الكلام عنه ليس بسبب إخراجه أو قيمته الفنية،

لأنه عرض في عدة صالات عرض عربية وأجنبية ولم يحصل على أي إشادة فنية أو سينمائية لكنه اكتسب صيتا كبيرا بسبب موضوعه وهو الشخصية العظيمة التي حاول أنزور يائسا تشويهها، أي أن الفيلم لم تكن له أية قيمة فنية فيما عدى محتواه. وما أن عرف الناقدون تاريخ هذا المخرج المرتزق عكسوا الصورة التي حاول الفيلم أن ينقلها، وربما جهل أنزور ومن مولوه أن الغرب ينظر للسينما على أنها فن راق مسئول، لا وسيلة للدجل والدعايات على الطريقة البعثية.

قال أنزور مفاخرا: دعوهم يخرجوا فيلما عنا، فتاريخنا كله رجال شرفاء!! سمعت هذا الكلام فكدت أسقط طولي من الضحك. أولاً أي شرف يدعيه هذا المرتزق وهو لم يحفظ لا عهد ولا ود لأناس استضافوه، وأكرموه، وفتحوا له بيوتهم وصدورهم، وخلقوا منه قيمة فنية بما قدموه له من دعم مالي وتقني؟ أي شرف يدعيه وهو بالأمس القريب يواصل الليل والنهار ليخرج الأوبريت وراء الأوبريت ليشيد بتاريخ “مملكة الرمال” التي هاجم مؤسسها في فيلمه؟ فهل كان يبيع فنه لمن يدفع أكثر؟ وهل الفن بالنسبة له ارتزاق وتجارة فقط؟ فالجميع يعرف أنه كان نكرة قبل عمله في الخليج وبعض معلمي الشاورما أشهر منه، وأن ممالك الرمال هي التي صنعته و هو لم يصنعها. أمن الشرف في عرفه وأخلاقه أن يعض اليد التي أطعمته؟ وقديما قالت العرب: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا. وهو بلا شك لم يتمرد فقط بل تمرد بشكل وضيع لا يليق إلا بعديمي الشرف والأخلاق!

ولو أردنا أن نخرج فيلما عن قادته الذين يفتخر بهم، ويقول عنهم شرفاء، فهو بلا شك لن يكون فيلما ملحميا تاريخيا بل فيلما من شاكلة أفلام “العراب”، أفلام المافيا والانقلابات والاغتيالات المتلاحقة، أفلام جمهوريات الموز. فعن أي شرف يتكلم وتاريخ من يحكمه ومن موله تاريخ تعهد للفرنسيين بمحاربة الإسلام والعروبة، تاريخ بيع الأرض والعرض، تاريخ الانقلابات وقتل الأصدقاء، والإخوة، والأصهار، تاريخ حافل بالخيانات والاغتيالات، وطبعا لن نتكلم عن الحاضر الماثل أمام أعيننا والذي دمرت فيه أسلحة الدمار الشامل أقدم عاصمة عربية إسلامية، ودمرت شعبا وتاريخا وحضارة من أجل عيون السلطة ولحساب دولة أجنبية. فنحن هنا لسنا أمام خيال الكاميرا بل أمام واقع ملموس تخجل معظم كاميرات العالم من تصويره وعرضه.

عموما لا أريد أن أعطي هذا السفيه أكثر مما يستحق، ولكن سأتساءل فقط، كم من أنزور بيننا يغترف من خيراتنا ويتربص الدوائر بنا؟ وإلى متى نستمر في تسليم أمورنا لأحقر البشر في عالمنا؟ نغدق عليهم بلا حدود فيعقروننا في أقرب فرصة تتاح لهم، ماذا قدم هؤلاء لنا في كل مجالاتنا؟ مسلسلات تلفزيونية هابطة شوهت سمعتنا وسمعة مجتمعنا؟ هل الربح هو كل شيء في الرسالة الإعلامية لدينا؟ وهل يدفعنا المال للنيل من مجتمعنا و أعراضنا لأي سبب كان؟ هذه القضية وغيرها يجب أن يكون فيها دروس وعبر مستفادة لنا جميعا، للكبار قبل الصغار، للمسئولين قبل المواطنين، وإذ لم نستفد من دروسها سنستمر نرتكب الأخطاء ذاتها، ما إن يتوقف الدفع والابتزاز تبدأ ماكنة الشتم والتشويه. وبعد ذلك يجب ألا نلومهم على أكل خيراتنا والاستهزاء بنا. فمتى تنتفض فينا كرامتنا ونسعى للتفريق بين عدونا من صديقنا؟ فمال الدنيا كله يجب ألا يساوي ذرة من وطنيتنا.

في مسلسلاتنا التلفزيونية الهابطة يتم تشويه مجتمعنا بحجة البوح بالمسكوت عنه، ويبدع القوم في إخراج ذلك لنا، وما هو هذا المسكوت عنه؟ قضايا استثنائية معزولة توجد في كل المجتمعات ولكنها لا تضخمها ولا تعتبرها مسكوتا عنه، بل استثناء لا يستحق الذكر، وإن ذكر ذكر في سياق محكم يؤكد خصوصيتها. نعرض لهم زبالتنا بينما تعرض لنا مسلسلاتهم بطولات حاراتهم، و”جدعنتهم”، وشهامة مواطنيهم، ونعرض ذلك بل سذاجة على تلفزيوناتنا ولأولادنا، وبحر مالنا. الأمريكان، أصل هذه المسلسلات وهذا الفن، يقدمون لنا مسلسلات تخلق صور وردية ملائكية عن مجتمعهم، فهم لطيفون مع السود، ويرحبون بالأجانب، لا فروق عرقية، أو طبقية، أو جنسية بينهم، بينما نحن نقدم لهم مسلسلات تصورنا كعنصريين جهلة عتاة نعامل الزوجة، والأجنبي، والخادم معاملة إجرامية، لماذا؟ لنتكلم عن المسكوت عنه!! بينما نسكت عن كل ما هو جميل لدينا، ونسكت عن إعطاء الصورة الحقيقية عن مجتمعنا وحقيقة تسامحنا، وكرمنا. وهنا يكمن ضعف الإنتاج الفني الإعلامي لدينا فتشويه المجتمعات أسهل بكثير من صناعة الصورة الإيجابية لها.

معظم الوافدين، وعلى وجه الخصوص قوم أنزور وما جاورهم، عندما يتعلق الأمر بصحتهم، يفضلون الطبيب السعودي ذا التأهيل العالي والممارسة الطبية السليمة، والتعامل الراقي ويبتعدون عن أبناء جلدتهم لأنهم يعرفون عن قرب أن كثيرا منهم بأخلاق أنزور، ونزواته، ولكن مسلسلاتنا البواحة تصور السعودي سكيرا نكيرا، وربع أنزور يحملون السماعات الطبية على صدورهم يجوبون بها مستشفياتنا لمعالجة مرضانا وكأنهم قادمون من جمعية “أطباء بلا حدود” الإنسانية لمساعدتنا نحن المتخلفين، فما زالت مسلسلاتنا تنقل صورة نمطية عنا تنتمي لعصر مضى وولى. و لا يفطن منتجو هذه البرامج للصور السيميائية، والإعلامية النمطية السلبية التي تنقلها للخارج عنا. فالجرأة في الطرح لا تعني بأي حال من الأحوال التشويه، والرسالة الإعلامية أمر في غاية الحساسية وعلينا أن نعي ذلك جيدا.

هناك من بيننا وللأسف من يستلطفهم، ويقربهم بل ويبرزهم حتى ولو كان تأهيلهم متدنيا، بينما أبناء الوطن يشكون لبعضهم من ضيق المجال، وبؤس الحال. والأمر هكذا في كافة المجالات تقريبا، فهم قوم مرنون جدا ولهم مفعول السحر علينا، وخصوصا على مسئولينا، يعرفون متى يكرون ومتى يفرون، وسحرهم لم تستطع جميع حيل وزارة العمل، وحوافزها فكه عنا، فنحن بحاجة ماسة لرقية وطنية قوية علها تشفينا مما نحن فيه من اعوجاج وبالطبع هناك استثناءات لرجال أعمال شرفاء يؤمنون بالوطن وشباب الوطن. وببساطة مطلقة، إذا كنا نريد أن نكون داخل المشهد الإعلامي، إذاعيا، أو تلفزيونيا، أو فوتوغرافيا، أو غرافيكيا، أو دعائيا، وهذا أمر لا مفر منه بالطبع، فلا بد أن نعد شبابنا لذلك، فهم الوحيدون الذين يمكن أن نستأمنهم على صورتنا الإعلامية. ولكن وللأسف نحن نرى الإعلام والعلوم الإنسانية الأخرى على أنها غير جديرة بالاهتمام، علوم عفا عليها الزمن، بل إنه قد ترتعد فرائص بعض مسئولينا من مجرد ذكر كلمه “فن”، فالفن ما زال هو التابوو الحقيقي في مجتمعنا، ولا يوجد في مؤسساتنا التعليمية أي قسم تحت مسمى “فن” أو “”فنون”. “فن” أي فن معاذ الله؟ قل تربية فنية، قل رسم ولا تأتي بأي ذكر لكلمة “فن”، فالفن كلمة شيطانية، والفنانون إخوان الشياطين، قاتل الله الفن!!! لكن الفن حقيقة هو كعب أخيل في ثقافتنا، وفي قدرتنا على مواكبة العالم من حولنا، الفن اقتصاد ضخم غير مرئي، وللأسف فنحن بقدرتنا الاقتصادية الضخمة لا نملك متحفا فنيا واحدا، وهذا في حد ذاته أمر غريب جدا.

إذا أردنا أن نخرج من ظاهرة أنزور وغيره، علينا البدء بإنشاء أقسام وكليات خاصة بالفنون: إخراج سينمائي وتلفزيوني، وتصوير فوتوغرافي، وتصوير غرافيكي، ورسم تشكيلي، وحتى فنون الإنشاد الديني التي راجت مؤخرا في مجتمعنا، فلا يصح أن نكون أكبر سوق إعلامي، ودعائي في المنطقة ولا تكون لدينا مؤسسات مهنية تُعني بذلك. فالتناقضات التي نعيشها فعلا بين واقعنا الحقيقي وواقعنا الفضائلي التطهيري المفترض لا يمكن أن تستمر بدون ثمن باهظ ندفعه، وإذا استمرينا في دفن رؤوسنا في الرمال فيما يتعلق بالفن، سنجد دائما من يصفنا بمملكة الرمال، وسنستمر فريسة سهلة لأنزور وقبيلته.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب