Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

محمد الفهد العيسى
في صمته وتأملاته اليوم!؟
عبدالله الجفري

 

 

لمن يتوجَّه الشاعر؟!

للوطن - أولاً - يتوجه بكل عشقه وانتمائه للأرض، وهو ليس ما سمّاه الناقد السوري (حنا عبود) بصفة: (المغنِّي العام)، لأن الوطن مغروس في ذات وحياة وتفاعل كل إنسان، وكل مبدع في شتى الإبداعات.. فهذه الصفة لن تكون تحديداً لمنهج، أو مدرسة، أو إشكالية في الشعر المعاصر!

ويتوجّه الشاعر (للإنسان): بعواطفه، وهمومه، ومعاناته، وتحولاته!

***

* أردت بهذا المدخل المختصر جداً: أن افتتح تذكرنا للشاعر الكبير (محمد الفهد العيسى) الذي كلما بُعد الزمان به، أعاده الشوق إلى: (بدوي ينادي قبيلته)... نناديه في صمته وتأملاته، لعله يجيبنا بصبابة من روحه!!

- قلت له مرة: لا تبتعد بزمنك عنا أكثر... فشوقنا يلهث من شدة الركض وراء المعاني الأجمل التي صارت اليوم: غالية وعزيزة، لأنها شحيحة!

هذا الشاعر: الذي غنّى ملحمة عذراء لأسماء ولأمكنة في وطنه - الأم.. كان يغني أيضاً ل(ليديا)، منذ ولدت على قمة شجرة الأرز، وهو الذي غنّى ل(هلا) تلك (المجدولة في رمشه)!

* ونكتشف الشاعر (محمد الفهد العيسى) في معاني وصور قصيدته التي أشرقت عن حضن طفولته - عنيزة، ونقرأه فيها وهو: يهبّ كصبا نجد، في معانيه وصوره وغانيه: أسطورة الحزن المتدفق... وما زال يرتبط في شعره بالمكان، حتى وهو يرسل نظره وتأمله إلى البعيد.. إلى: (سلجماسة) في المغرب، وإلى (الجبل الأبيض)، وإلى (ليمان) على ضفاف بحيرة جنيف... حتى يعود إلى مرابعه وذكريات عمره، هنا في أرضه: (التنهات) التي يردد اسمها في أكثر دواوينه وقصائده:

وما زالت جوانحه تصغي لذكرى تأتيه من الأمكنة، حيث: (شرب الضباب ملاحم الوتر)... وتذكره بألحاننا وإيقاعاتنا: السامري، والحدري، والمجس، وحتى (الأوف)، وفيروز التي يعشق صوتها وهو يرتل الحب!

لكن قصيدته هذه عن حضن الوطن الدافئ.. أحسبها: حشاشته!!

***

الفهد التائه:

قلت لأبي عبدالوهاب ذات يوم افتقدته فيه:

- أين أنت - أيها الشاعر الرومانسي الأصيل الذي كان يقف (على مشارف الطريق)، ويعلو حداؤه، فتفيض منه أشجان الحزن؟!

أيها (الفهد التائه): ذلك الاسم الرمز الذي كنت تنشر فوقه قصائدك عن: (صحوة المارد) وتنسج أبيات شعرك لعيني (ليديا) في زمن السلام الذي كان يرفرف على هامة شجرة الأرز في لبنان.. وأنت عاشق للجبل، وللصنوبر، وللدبكة؟!

أيها المغني على معزف الغرب والهوى.. منذ انطلقت أشعارك من قلب الجزيرة العربية، من عمق (عنيزة).. ورددتها - غناء وموسيقى - أصوات ذاعت في الستينات مثل: نجاح سلام، وسميرة توفيق، ونجاة، وطارق عبدالحكيم، وفائزة أحمد.. فكانت قصائدك المغناة، أو أغنياتك القصائد: التفاتة من سمع المصغين إليها، والمترنمين بمعانيها.. كصور جديدة مبهرة، تخرج من جفاف الصحراء لتنثر قطرات الارتواء في الوجدان العربي!

أيها الشاعر الذي كنت: رسول الحب... تدعو إليه، وتذيع صوته، وتلون ريش العصافير بكلماتك عن الحب، فقلت:

شدوتُ لنفسي بلحن الجمال

وبُحت لقلبي بسر الخلود

فظِلْتُ أعيش بدنيا الخيال

وأبحث عما بكنه الوجود

لأحيا، ومن أجل حبي العنيف

ولكنْ.. عبثت، وشئت الجحود!

***

* أصغى الشاعر الكبير (محمد الفهد العيسى) إلى طول هذا النداء.

* ضحك غير ساخر... ولكنه ضحك كالشجن الممطر حزناً أو تأملاً، وأجاب:

- ما زلت هناك.. تجدني في رفة عصفور.. في سحبة جيتار.. في أبعاد صوت فيروز.. في غصة الشعور الإنساني وهو يتلقى سلوك العصر الجديد، وطعناته:

* يا أيها الصديق:

أتذكر الناي الذي يُهدهد المساء؟!

ونغمة الشوق التي تُفجر العطاء؟!

وتغمر الدنا: سناء؟!

إقتاتها الزمان.. في رواح ضلّ

في مئين من أماسي الانكفاء!

وقلبي - بين أضلعي -

في كل لحظة - يا أيها الصديق - يختنق!

***

* استطرد - بعد لحظة صمت - وكأنه يسترجع شيئاً قديماً وشجياً، فقال:

- يا أبا وجدي... نحن هناك معاً كل لحظة.. في: السامري، والحدري، والفُرعي.. في (شهار) الطائف، وفوق صخور (الرّدف):

* هناك تمرّ بي الذكريات

فأشقى بحبي، وذّل الحياة!

ونحن هناك مع: الميجانا، والعتابا، وفيروز، وذكريات أعلى هامة ثلج فوق أرزة لبنان القديم:

- من عهد - ممّا قبْل - لا أدري!

ذرَتْ ريح الخريف عسامها فوق الرباب

وتقطّع الوتر الحزين

ما في يدي منه سوى (ذكرى) تُهدّج بالحنين!

- يا أبا وجدي: لماذا تقتحمني، وتثير مواجعي، وذكرياتي؟!

- قلت للدبلوماسي والسفير السابق، والشاعر دائماً بنبضه الدافئ (محمد الفهد العيسى): لقد ملأتنا في الزمن القديم من خفقك، وعدنا ننادي على الشاعر الإنسان الذي أخلد اليوم إلى الصمت!!

***

وصفه الإنساني:

هذا الشاعر الصديق، توأم الروح يوغل في ليل الشجن.. ينطلق كل مساء من استراحته هناك في (الشاطئ الحزين) حيث يشكل الحزن: (وصفه الإنساني) على آثار يعرفها وجدانه.. كأنها بصمات خفقه في مسيرة عمره.

وإذا تحدث (شاعر) ما عن التجربة الإنسانية.. فلا بد أن يأتي شاعرنا - قبل كل شيء - بتجربة (الروح) في كل ما طرحه على الحياة من أسئلة، وفي كل ما حصده من الحياة.. في انطلاقته الدائمة نحو (التعبير) أو صياغة وجدان إنساني: شعراً!

* وفي ليلة حوار الشجن.. كان يهمس في سمعي قائلاً:

- ما زال أهلنا العرب يُغنون: (يا ليل.. يا عين)... وما برحوا دون أن يلتفتوا حولهم ليكتشفوا أن (ليلهم المُغنى): لم يعد لك الرجع للأشواق ودفء الروح.. بل حتى نهارهم العربي صار ليلاً من الضنا والقلق والغربة.. يحدثونك عن (الترقب)، فكأن (الأمل) ما زال يُعمر نفوسهم.. وهذا تفاؤل!

قلت لصديقي الشاعر، الذي يحلو له أن أطلق عليه صفة (التائه):

- كأننا نستعيد ذلك الزمان الذي كان فيه شعراء العرب يقفون على الطلول، بل ويناجونها!

- قال بضحكة ساخرة: تلك طلول الحبيبة يا صديقي... أما طلولنا اليوم، فهي الأكثر جرحاً، وتتمثل في طلول الوطن العربي ودفئه!

- قلت: أنت هنا تصور شعرك (كعربي).. بما يعني: أن تجربتك وحركتك الشعرية، مرتبطة (بالتجربة المادية) ومتجاوزة للتجربة الروحية؟!

- قال: لا يمكن هنا أن تفصل بينهما..فالتجربة: رحلة إنسانية متكاملة.

***

و.... عاد صديقي - توأم الروح - الشاعر (بلون جراحة.. بلون الشفق الحزين) يهديني (لوحة) شعرية جديدة، يتوئمها مع صفة الإنسان فيه.. كأنه يجسد لنا ملامح هذا الزمان:

- (أتون مغلق يمور.. وقودُه الوميض من معارج الغسق.

وكأنه يقتات - وحده - الموال في أنين)!

وفي شجون صديقي الشاعر - التائه: إحساس الصوفي الذي يتسامق إلى الأعلى، ويشفّ حتى الذوب وجداناً.. وكأنه يتوق للفرار بروحه ونفسه من عالم تلوث بالماديات، فلم يعد يغريه فيه هذا الدخول اليومي لمزيد من الاكتئاب!

نه تواق - حقاً - لانطلاقة الروح من (مناهل الصبر) ارتقاء بهياً إلى: أفواف الزهر التي (تنبع وداً.. إشراقاً.. وحناناً)!!

يعود صديقي - توأم الروح، الشاعر (التائه).. فيكتب لي - لكم، للساعة منتصف الليل، للحب - مثخن الجراح، للمجداف:

- تجتاحني بحور الشعر.. ويجرفني النسيب

ويغرقني في لججه!

تتقافز - كلمات القصيد - وتموت على شفتي

شيء منا يشنقها فوق لهاتي.. وأختنق!!

جموح حصان القريض: أدمى يدي

بعد أن أدمى ذلك القلب الشفيف

بدقاته المتسارعة

ف.... كيف أكتب؟!!

الحرف يتوقد... يشعلني بلهب

الفراق - الصعب - وينثرني في

مهب الريح

ينثرني.. شوقاً - حباً

يمطرني على حفاف دروب المحبين

سوى اللقاء.. اللقاء القريب؟!!

***

إحساس بالغربة:

- وبعد.. إنْ (بحثنا) عن تواجد الشاعر إبداعياً، لا ترويه قصائد تأتي متباعدة، وإن جاءت قصائده الجديدة في (الجزيرة) تفيض بمعاناة الشاعر اليوم في صمته، فجاءت صوره استغراقاً في المعاناة من غربة الروح:

أعلّل نفسي يا مُنى النفس كلما

تداعت على قلبي هموم سرائري

غدوتُ غريباً بين يوم وليلة

كأني بها دهراً من العمر غابر!

هنا... يجسد الشاعر إحساسه الذي يفيض بالغربة.. لم يعد يدفئه هذا التطلع من عين تبحث عن التلاقي.. ولم يبق له سوى (بوح) مثقل ببقايا حلم... وبقايا متعة في ذكرياته تراوح، في انتظار أن يفتح باب سحري يطلّ به على اطمئنان النفس!

إننا - حقاً - نشتاق إلى شعر (أبي عبدالوهاب)، ونستاف من رحيقه المترع بشجون النفس - حلماً، وذكريات، ونشوة تتصاعد من ذلك الزمان الأجمل، برغم أنه أبدع تصوير هذا الإحساس في لوحة جديدة رسمها بهذا المعنى:

ما عدتُ أدري.. كل شيء تشابهت

أمامي رؤاها بين ثاوٍ وسائر

تجافت جنوبي عن وسائد مضجعي

فلستُ بيقظان، ولست بساهر!

هكذا (الشعر) يحلق في سماء مشرقة بالحقيقة، ويخوض بحراً يتلاطم بالمعاناة.

الشاعر.. يحسب أن (الأماني) تُشكل عنفواناً لأمنياته وخواطره، فيعلل النفس بالشعر الذي لن يكون غاية الارتياح النفسي، بل ربام كان: معبّراً عن القلق النفسي.

أو كأن القصائد الحديثة التي يبدعها الشاعر الكبير محمد الفهد العيسى اليوم في وحدته، وصمته، وتعلل نفسه... تهبُّ من غياهب العقل قبل أن تلمسها الروح بشفافية دافئة!!

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5717» ثم أرسلها إلى الكود 82244

a_aljifri@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة