Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 
رفيف
الكتاب الذي جرحته
د. فاطمة الوهيبي

 

 

الكتاب الذي جرحته، ورحت أعتذر لرهافته ورقة ورقه كأني أخاطب كائناً حياً، الكتاب الذي جرحته ورحت أعتذر منه بهرني!! الكتاب الذي حينما جرحته بدلاً من أن يصرخ أو يتأفف أو على أقل تقدير ورغمًا عنه يقطب ما بين حاجبيه، أعني دفتيه، ارتخت أوراقه بين يدي وفتح لي روحه أكثر فبدا مذهلاً.

الشق في الورق الذي رغمًا عني تبادر للاتساع حينما لمسته كأنما كان يقدم لي امتنانه إذ أعطيتُه فرصة التنفس أكثر فراحت أغواره الخفية البيضاء تنفتح أكثر لي، وراح يمنحني تألقه، ويلوح لي، وهو يتألق بدم أبيض خفي مضيء، بسر يشير إلى ذاته وأبعد منها، تلك الذات المختفية بين ترقيشات الحبر ونمنمات الحروف ووشم الأسطر، شعرت لحظتها أن نظراتي ولمستي كانت تجمع روحه المبعثرة في سر عميق أبيض بعيد، اكتشفت أنني كنت أكثر قربًا منه وأكثر حميمية معه ممن رقّش ووشم، حينها أدركت كم هو فعلاً صديق!! وكم يحتاج إليّ ليمنحني شفرة قرأتها وحدي.

الصديق لا يكون صديقًا إلا حينما يمنحك إيمانه بما تفعل، ويمنحك الفرصة لتتعرف على حقيقة روحه بحب وتواضع؛ يطمئن لقلقك، ويستكين لجرحك.

الصديق لا يزأر حينما تجأر أنت!! إنه فقط يمنحك حبه وإيمانه، يمنحك إيمانًا بالديمومة، لذلك أنا أحب الكتب.

الكتب لا تتغير، الكتب وحدها تمنحك الثقة بقوة حضورها واستمراريتها واستعدادها الدائم لأن تكون بقربك وبين يديك متى احتجتها.

هذا الوفاء المدهش وقوة الحضور الجذابة هو ما يميز الكتب في الوقت الذي يضمحل حبُّ البشر ووفاؤهم وتشيخ أنسجة العلاقات بينهم، الكتب لا تشيخ، فيما البشر يتهافتون ويذوون!! الكتب تملك حيوية لا يملكها أصحابها، وهذا أقصى ما يدهشني (وأحياناً يملؤني بلوعة الأسئلة وقلقها)؛ فنحن حالما نغادرُ ما نكتبُ نتعب، أو نفقد اهتمامنا أو... أو.. في الوقت الذي يتماسك الكتاب ببهجته وبرواء ونضارة لا يمسهما شيء.

يتألق الكتاب ويستمر متألقاً حتى وهو يصف أسوأ الناس وأردأ العلاقات وأسرعها خورًا وتبدلاً واضمحلالاً ونكرانًا!! يبدو الكتاب أكثر رأفة مما يصف؛ لذلك من بين أسبابي لحب الكتب ذوقها الرفيع وتلطفها وتهذيبها حينما تصف ما يفجع، وحينما تصيبنا بما تصيبنا به من دهشات أو إحباطات أو كآبة أو حتى شهقات انتعاش وفرح؛ الكتب أكثر خبرة وذوقاً من البشر، أكثر معرفة من أصحابها!! لذا أنا اعتذر بحب وصدق إذا جرحت كتابًا، وهذا (الجرح) قلما يحدث، ولكن إذا حدث أبدو كالمجانين وأنا أخاطبها وأكرر اعتذاري والجماهير المصطفة في المكتبة وعلى الأرفف من حولي هم شهودي المتجمهرون دائماً يعرفون سر القُبلة الشافية السحرية!! ألسنا حينما كنا أطفالاً يقنعنا الأهل بأن القُبلة مكان الألم أو الجرح كفيلة بشفاء الجرح وإيقاف النزف؟ فكيف لا نصدق إذاً ولا تصدق الكتب قُبلة الكلمات واللمسات؟ كيف لا تصدق الكتب قُبلة الكلمات وهي قِبْلتُها؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة