Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

حصار الثلج.. حصار الصحراء
تخليق اللغة.. ولغة الإبداع
جارتي مَدّتْ من الشرفَةِ حبلاً من نَغَمْ (3)عبد الله الماجد

 

 

في قصة (حمار اللجنة) يتنوع فن الكاتب، وينحى منحى آخر يُجدد فيه موهبته الفنية. إنه هنا ينسج أسلوب الحكاية الشعبية، وينوع في مضمون الحكاية الواحدة، فهذه القصة تذكرنا بقصة أخرى كتبها الكاتب بعد هذه القصة في مجموعته (سيرة نعل) وجعل عنوانها (رفرف) يرويها الكاتب فيما يشبه الحكاية الأسطورية الفلكلورية. ويبدو أن شخصية (الحمار) استهوت خيال الكُتاب، ممن نقرأ لهم مبثوثًا في ذخائر الأدب العربي القديم، وكذلك المعاصر. ولعل أشهر المعاصرين الذين جعلوا من صورة الحمار معادلاً فنيًا في أدبهم (توفيق الحكيم) و(حمزة شحاتة) وفي الأدب العالمي (خمينيز) الإسباني. واللافت للنظر أن الحمار في أدب (الحكيم) و(شحاته) كان فيلسوفًا على عكس ما تعارف العامة عليه، من وصف الحمار بالغباء. هنا في قصة (عبدالله الناصر) هو أيضًا حكيم وذكي، فاق بذكائه الذين ظنوا أن الحمار ضئيل الحجم، سوف تخور قواه أمام ذلك القوي الآخر ضخم الجثة، وهو ما ثبت عكسه. وفي قصة (حمار اللجنة) يُصبح أذكى من (اللجنة) ومن القاضي، بل هو (أذكى وأعقل مخلوق في هذا البلد...).

في هذه المجموعة قصة أخرى هي (التنكة) قد يجوز ربطها من حيث الاتجاه الفني والموضوع بالقصتين السابقتين (حمار اللجنة) و(الاستغاثة). هذه القصة، تجسد شخصية موظف يقع تحت طائلة اضطهاد مدير الإدارة، ولم يجد ما يمكن أن يرد له اعتباره إلا هذه الفكرة التي لمعت في ذهنه وهو يتمشى على شاطئ البحر حينما عثر على (تنكة) صدئة و(متخشرمة) من كثرة ما نحتها ملح البحر، فيقرر حملها معه، وفي الصباح عاجل جميع موظفي الوزارة وسبقهم إلى الإدارة، ووضع التنكة على مكتب المدير. وحينما حضر المدير كان هو بانتظاره والتنكة على المكتب، وتلبس المدير حالة من الاستغراب والذهول، فنهر الموظف: ما هذه فرد عليه الموظف:

- انظر إليها! حدق فيها جيدًا سوف تعرفها..

وحينما كان المدير يُجيل نظره في (التنكة) وهو لا يصدق ما يحدث، يدنو من المدير بكل هدوء وثقة قائلاً:

- سيدي المدير هذه أنت.

إذا ما تقوله هذه القصة، التي ارتفع فنها إلى مستوى القص الفني الرائع، بآدائها الفني المبسط غير المعقد، تذكرني بفن (تشيخوف) الذي قال عنه صديقه (تولستوي) (إنك في فنك القصصي يا صديقي، تغزل من (الخرٍق) البالية نسيجًا فاخرًا يشبه الحرير) وكان (تولستوي) يشير بذلك إلى قصة (الحبوبة) لتشيخوف، التي قال عنها إنها مثل الدانتيلا التي نسجتها فتاة عفيفة. كان في الماضي أمثال هؤلاء الفتيات ناسجات الدانتيلا العوانس، كن يضعن في الزخرف كل حياتهن، وكل أحلامهن بالسعادة، وبالزخارف كن يحلمن بالحبيب الغالي، وينقلن إلى رسوم الدانتيلا كل حبهن الطاهر المبهم. وما فعله كاتبنا في قصته هذه، أن جعل من هذه (التنكة) البالية، لوحة فنية رائعة. قصص أخرى في هذه المجموعة، مثل (الحرمان)، (حتروش) (الحذاء)، (بيت النمل) تُعبر عن انكسارات المهمشين في دروب الحياة، الذين أدمى قلوبهم الحرمان والفقر، فاستحالوا إلى الضياع، بسبب عجزهم الإنساني، ولعل قصة (بيت النمل) من بين تلك القصص، تبدو أكثر حظًا في اكتمال عناصرها الفنية.

وفي هذه القصة لن نبذل جهدًا عسيرًا في تلمس إشارات الإبداع اللغوي فيها. فهي في بدايتها ترشح بهذا التكثيف اللغوي الموحي، الذي يُجسد المعاني، ويبث فيها الحياة، فيجعلها تتحرك وتتفاعل، تترسل هذه القصة في استهلالها على هذا النحو:

(راحت تنهش قدميه أفواهُ الدروب، وعيناه تمضغان التلال والشجيرات القاتمة... وحمامة تفر من غصن شجرة فيتناثر ريشها في الفضاء تحمله الريح فينسج في عينيه سحابتين في هذا الفضاء القائظ المشمس...

الحمامة وهي تجدف بجناحيها في ماء السراب، هي آخر كائن حي يرحل عن هذا المكان!! أسند جسده تحت الشجرة في هذا الهجير المتوقد، تحاصره الحجارة البيضاء الملتهبة في هذا الظل الشاحب كظل الغربال... أسند جذعه إلى جذع الشجرة.. . (بيت النمل، ص 87).

عبر جمال اللغة الموحية، في هذا النص، تتناوب صيغ الجمل الفعلية، والإسمية والوصفية، لتصنع جماليات المعنى الذي يتجاوز الوصف للأشياء خارجيًا، لكنه ينحت المعنى من صياغة المعنى في الأسماء والأفعال، فالجوامد تتحرك (أفواه الدروب) وتصبح لها أنياب، والعينان تمارسان فعلاً أبعد من الرؤية (تمضغان التلال والشجيرات القاتمة) التي تحجب الرؤية. الحمامة التي تفرّ هاربة من جور الصياد. وهي تسبح في هذا الفضاء الصحراوي القائظ، تلتحم بالسراب، فكأنها تجدف في الماء السراب الذي يحسبه الظمآن ماء. صورة موحية نامية، لا تنفصل عن معناها. لعل القارئ يلاحظ في الجزء الأخير من هذا النص، أن الكاتب - ودون أن يتعمد ذلك بتقصد سابق - قد استعمل فنون علم البلاغة من بديع وطباق وجناس، ليس كأمثلة منفصلة عن سياق المعنى، وإنما للبناء التخليقي للغة في فورة إبداعية دافقة.

إن ما يميز هذه المجموعة القصصية، هو هذا الانفعال التلقائي الاحتفائي. باللغة، التي تتخلق وتتوالد لتصنع البكارة والدهشة لهذه التجارب القصصية التي كان صوت الفن القصصي في معظمها عاليًا، وفي بعضها القليل كان هذا الصوت خافتًا. ومن أمثلة ذلك، قصة (شخير) وهي تمثل حلم الكاتب الواعي بما يتمنى أن تصبح عليه امته العربية التي أدركها الهوان في كل أمور حياتها، فهانت على الآخرين، وهو معنى جميل، لكن نبرة الخطاب العالية، والوعي الحاضر، أخل بميزات الخلق الفني الذي لاحظناه في قصص أخرى في هذه المجموعة، وما يقال على قصة (شخير) يُقال على قصة (نظرية حسان) ومضمون هذه القصة جميل وهادف، حيث تُعبر عن أفكار النخبة من أبناء هذه الأمة العربية، ودور العلماء في بناء نهضة هذه الأمة، لكن وضوح هذه الأفكار وإيمان الكاتب بها، وانفعاله المباشر بها، كانت على حساب العمل الفني وقوامه. قصة (نجيب فرحان) تندرج أيضًا في هذا الاتجاه، الذي تعلو فيه نبرة الخطابية والتقريرية، فيما خفت صوت الفن فيها، على حساب المضمون المهم والجميل.

وهذا يعيدنا إلى قضية نقدية قديمة هي قضية (الشكل المضمون)، وهي في موضوعنا الذي نتحدث عنه، تطرح أهمية أن يختار الكاتب الموضوع الذي يناسب قالبه الفني. والبرهان على ذلك في هذه المجموعة القصصية، مثلاً إذا عدنا إلى قصص أخرى من مثل (حصار الثلج)، (حمار الجنة)، ٍالتنكة)، (الاستغاثة)، (بيت النمل) والمثل الذي استدعيناه من خارج هذه المجموعة قصة (الحبوبة) لتشيخوف) وحديث (تولستوي) وكل هذه القصص تدلل على أن الكاتب يستطيع أن يغزل من الخِرَق البالية نسيجًا فاخرًا أشبه بالحرير، وهذا في حد ذاته إعجاز، فليس الإعجاز أن تنسج من الحرير ثوبًا فاخرًا.

انتهت

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7099» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة