Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

مساقات
المؤتمر الدولي الرابع للنقد
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

- 1 -

كان المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي - الذي أقامته الجمعية المصرية للنقد الأدبي، في القاهرة، في الفترة من 1 نوفمبر إلى 5 نوفمبر 2006، تحت شعار (البلاغة والدراسات البلاغية) - حلقة من سلسلة لقاءات دولية تثري المشهد النقديّ العربي والدولي. بل كان من أكثر دورات المؤتمر غنى وعمقًا، وملامسة لقضايا النقد الحديثة، من حيث صلتها بالتراث، عربيًّا وغير عربيّ، وبتقنيات البلاغة المعاصرة كذلك. ولم يُكدّر صفو أجوائه إلا غياب راعيه وربّانه، الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل، الذي ألمّ به المرض قبيل المؤتمر، فألمّ بنا جميعًا الأسف والأسى.

لقد شارك في المؤتمر قرابة ثمانية وسبعين باحثًا وباحثة من الوطن العربي وأوروبا وأمريكا. ومن المملكة شارك كاتب هذه الأسطر ببحث فيه، وكذا الدكتورة سعاد المانع. وحضره لفيف من المثقفين والإعلاميين.

وتطرق المؤتمر إلى محاور مختلفة، ك(التأسيس المعرفي للبلاغة)، (المفاهيم البلاغية)، (البلاغة في العلوم الإنسانية والنصّ التشعّبي)، (بلاغة النصّ الشعري)، (البلاغة والنقد)، (البلاغة من المنظور الثقافي)، (البلاغة والحِجَاج)، (بلاغة النص الروائي)، (البلاغة والدراسات النسوية)، (البلاغة والفنون البصرية)، و(البلاغة والتأويل).

-2 -

ومن أوراق المؤتمر ورقة (إدموند رايت Edmond Wright)، بعنوان (Narrative and Epistemic Rhetoric السرد والبلاغة المعرفية)، التي يقارن فيها بين تاريخ البلاغة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.. مشيراً إلى أن البلاغة في الولايات المتحدة الأمريكية ارتبطت، نشأةً واتّصالاً، بالحركة السياسية الديمقراطية؛ من حيث كان إتقان فنّ الخطابة سبيلاً إلى الفوز بالأصوات في الانتخابات، فجاء تأسيس الكليات الجامعية المهتمة بالبلاغة، وقَوِيَ ذلك الاتجاه إلى دراستها في القرن التاسع عشر.

على حين كان يغلب على ممارسة الخطاب البلاغي في بريطانيا طابع الهواية. وعلى الرغم من أن دراسة اللغة الإنجليزية في ذاتها كانت قد بدأت تطغى في الولايات المتحدة على دراسة البلاغة منذ العِقْد الأول من القرن العشرين، كما بدأ رَفْض الرومانسيين للبلاغة يأخذ منحى فكريًّا، ونتيجة لذلك ظهرتْ محاولاتٌ للتقليل من شأن البلاغة؛ لاعتقاد بعض الناس أن البلاغة محض أساليب خدّاعة متلاعبة بالعقول، على الرغم من ذلك كله فقد كوّن علماء البلاغة هناك كلّيّات متخصصة في البلاغة، وهو ما لم تشهد بريطانيا له نظيرًا، بل لقد اختفت الدراسة الأكاديميّة للبلاغة من الجامعات مع بداية القرن التاسع عشر. والباحث يُدافع عما يسميه (البلاغة المعرفية (Epistemic Rhetoric) ، ضد خصومها، تلك البلاغة المتعلقة بجذور اللغة، كمكوّن إنساني جوهريّ.

وبالمقارنة بما ذكره الباحث إدموند في شأن المقارنة بين البلاغة في أمريكا وبريطانيا، للعربي أن يسأل عن موضوع البلاغة العربية، ولاسيما المعاصرة. لا شك أنها كانت أداة سياسية في معظم التاريخ العربي، وأنها قد وُظّفت (أدبيًّا-إعلاميًّا) لتوجيه العقول أو تعميتها كثيرًا.. بل لقد باتت الثقافة البلاغية العربية تنحرف عن وظيفتها في التبصير، والإبلاغ، إلى ضروب من: التجهيل، والتخدير، والتنفيس، واجترار الكلمات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، على حساب العمل والإنجاز. كما ارتبطت بلاغتنا العربية بالماضي، فالأبلغ هو الأقدم، كما أن الأحق هو الأسلف، ومن ثمّ انفصمت البلاغة عن واقع الحياة المتطوّر، و(ميكانزماتها) المتجدّدة، وهي لذلك تمثّل أسوأ نموذج يمكن أن يوصف فعلاً بمغالطة العقل والتلاعب بالكلمات.

لذلك لم يكن مستغربًا أن ينهض من المشاركين أنفسهم في ذلك المؤتمر الدولي من يتساءل عن علاقة بعض الأطاريح في المؤتمر بعنوانه؛ لأنه قد استقرّ في خَلَده أن البلاغة هي تلك المعلّبة قديمًا في علم المعاني والبيان والبديع، وإذ لم ير في مؤتمر كذاك تركيزاً على الاستعارة والتشبيه والكناية، جَفَل، واستشعر اغترابًا، عبّر عنه بصدق، يعكس تلك الثقافة البلاغية الخطابية العربية التي أوشكت أن تختطف بلاغيات الشعر نفسها، عن فنّيّتها المتجاوزة، كي تؤطرها بوظائف (توجيهية - تضليلية) مباشرة، في خدمة قضايا خارجية مستهلكة.

- 3 -

ويلامس عبدالسلام المسدّي في بحثه المقدّم إلى المؤتمر، تحت عنوان (في بلاغة الخطاب السياسي: السياسة وبلاغة التسمية)، قضية التسمية، وما تتمخّض عنه من قولبة خطابية، تُنسى أصولها، أو تُتناسى، لتحلّ حقيقتها المتوهّمة - غالباً - محلّ مجازيتها الأولى. فإذا الاسم يحلّ مكان المسمّى، وإذا الدالّ يعتمر ذمار المدلول. وهو بحث يذكّر كاتب هذه الأسطر بمقاربة له حول صنعة الألقاب في عالم الشعر، وقد كان بين عالم الشعر وعالم السياسة فيما مضى توالج.

ذلك أن علاقة الاسم بالوجود جوهرية في تجربة الإنسان، منذ علّم الله آدم الأسماء كلها. فالاسم هو قناة الفعل ورد الفعل بين عالم الإنسان الداخلي وعالمه الخارجي. وهو يمسي في عالم السياسة أداة فعل وإنجاز إرادة. وهي عملية تدور - وفق ما يشير الباحث - في نطاق ناموس تواصليّ قاهر، إذ إن (ما تبتكره الألفاظ من دلالة وإيحاء يخبو وهجه بمرور الزمن، فيندرج ضمن رصيد اللغة الطبيعي، تماماً كما يحدث عند كل مجاز في التعبير: إذا طال عليه الزمن واستقرّ في التداول اللغويّ العام، غاب عن المستعملين أنه مجاز، فيغدو حقيقةً عُرفية جديدة).

ويتتبّع الباحث المسألة في مراحل تشكّل الخطاب، منذ دلالة الألفاظ، فصوغ العبارات، ثم نسج التراكيب والجُمل، وصولاً إلى رسم سياجات النصوص، صعودًا إلى مراتب الخطاب. ضاربًا الأمثلة والشواهد على ذلك كله، في حقلي السياسة العربية والدولية، من خلال نماذج تدور فيما تدور حول الازدواج بين اسم الشهرة أو الاسم الحركيّ والاسم الأصلي، إبّان الأعمال النضالية، وكذا تُحلّل أنماط الألقاب العسكرية المصاحبة لأسماء الساسة والقادة. مُؤكّدًا أن استجلاء عالم الأسامي والصفات يقفنا على أنها ترتقي في لُعبتها اللغوية في مجال السياسة إلى أعلى درجات الرمزيّة.

وقصة السياسة مع توظيف التسميات لصنع الخطابات ليست قصة أخرى سوى قصة الشُّهرة، كما ذكر الباحث. وما الشهرة سوى أن تكفّ الذات عن كونها مُلكًا لنفسها، لتصبح مُلكًا مشاعًا للناس. ومن ثم يأتي الاسم - بوصفه ترسًا في جهاز إنتاج الشهرة - ليحلّ مكان المُسمّى. ليصل المسدي في بحثه إلى ما يدعوه استنباط معادلة دلالية جديدة، تتمثّل - بحسب قوله - في (أن الاسم هو الذي يحلّ محلّ المدلول، وأن المسمّى هو الذي يمسي دالاً عليه). وتظلّ اللغة هي مادة مصنع الشهرة وورشة الإجماع حولها.

وهكذا، (فمثلما ينحجب في مجال الشّهرة الفنّيّة الاسم الحقيقي وراء الاسم الاصطلاحي الجديد، كذلك يمكن أن نراه على نفس الخصائص في مجال السياسة).

إنها حفريّة يجريها المسدّي في حقائق اللغة وفعلها في حياتنا الفكريّة والثقافية، قد تبدو للمرء ضربًا من الترف الفكري أول وهلة، غير أنها تنبش في صميم ما يشكّل ذواتنا الذهنية والاجتماعية والسياسية، تنبئنا عن أن اللغة ليست وسيلة نقل للأفكار فحسب، ولكنها - قبل ذلك وفي أثنائه وبعده - وسيلة صنع للعقول وتشكيل للشخصيات والشعوب. فهل يعي العرب خطورة ما تصنعه اللغة بهم، وما يمكن أن تصنعه لهم؟ لو وعوا، لكان شأنهم معها في العصر الحديث شأنًا آخر!.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة