Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

خطاب النخبة الثقافية العربية وأساطير ما بعد الاستشراق (1)
فاضل الربيعي

 

 

في عام 1803م ومع بداية عصر الاستشراق، كتب الرحالة الفرنسي فرانسوا دو شاتوبريان ما يلي: (بدا لي العرب حينما رأيتهم طوال القامة. ولو أنهم أبقوا أفواههم مغلقة دوما لما دّل شيء لديهم على الوحشية. بيد أنهم ما أن يبدءوا الكلام حتى تسمع لهم لغة صاخبة وملفوظة بملء النفس وتلحظ أسناناً طويلة). بعد ما يقرب من عشرين عاماً على رحلة شاتوبريان وانطباعاته المريعة هذه، كتبت مواطنته الرحالة أوجين مليشيور دو فوغيه في كتاب (رحلة إلى بلاد الماضي - باريس 1871م) إن عظمة مشهد الشرق (المشهد البدائية تحيلنا إلى العصور التوراتية، وتعود بنا من غير وعي منا إلى المشاهد البطرياركية لأيام العالم الأولى. إنهم البدو الرعاة وهم أول من التقيناهم (....) الطريق التي سلكناها هي خارج المسار المعتاد للرحلة؛ ومن النادر أن يمر الأوروبيون فيها. كانت لهم عيون من نار وأسنان بيض مثل العاج. وحدها تحيي الوجوه الشاحبة النحيفة من جراء الحرمان).

هذه الانطباعات الاستشراقية التي كانت لبً الاستشراق الكلاسيكي؛ لا تزال تشكل المادة العضوية في (ما بعد الاستشراق) الذي ينهض بعبئه اليوم كتاب ومنظرون ومفكرون وصحفيون في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

ومثلما كانت للاستشراق الكلاسيكي أساطيره اللذيذة عن (الخوف من البدو) ذوي الأسنان الطويلة اللامعة، المتوحشين والبدائيين بصورة لا توصف، والتي أنتجتها خيالات عشرات الشعراء الرحَّالة والمستكشفين والضباط الكولنياليين؛ ممن كانوا يتأهبون للحظة الانقضاض على الشرق، أثناء قيامهم بما يشبه عمليات مسح ميداني شامل للأرض العربية، حيث قطعوا خلالها الصحراء وجابوا البوادي في العراق والشام ومصر، طوال القرنين السابع والثامن عشر ثم عشية الحرب العالمية الأولى؛ فقد كانت لما بعد الاستشراق أساطيره اللذيذة الخاصة هو الآخر، ولكن المماثلة والممتعة إلى حد كبير من حيث درجة تلذًذ متلقيها الغربيين (بشكل خاص، بالقصص المسلية والشيقة للبدو أنفسهم الذين يقتلون الإنسان لمجرد الاعتقاد خطأ أن أزراره الصفراء هي أزرار من ذهب).

ثمة صناعة في الحالتين للأساطير؛ ولكن الفارق الأكثر جوهرية في هذه الصناعة المتواصلة منذ عصر الفتوحات الاستعمارية حتى اليوم، هو أن ما بعد الاستشراق يركز اليوم بطريقة مختلفة تماما)، لا على (العيون التي تتوهج كالنار) ولا على (الأسنان الطويلة) للبدو؛ بل على الطابع الاستثنائي للعنف المُختزن في أعماق الشرق أوسطيين ذوي الشعر الأسود واللحى الطويلة.

هذه الصور هي التي سوف تمهد السبيل أمام تخيُّل هؤلاء؛ في صورة إسلاميين متطرفين يهدد خطرهم العالم كله. وبدلاً (من التحديق وإمعان النظر في الأسنان الطويلة للبدو، سوف يحدّق ما بعد الاستشراق ويتأمل في (اللحى الطويلة) والثياب القصيرة لهؤلاء (الوهابيين الجدد) القادمين من الصحراء. لقد حلت في الثقافة الغربية المعاصرة (الحديثة) رمزية جديدة للبدوي، محل رمزية الأسنان الطويلة التي أنزلت في الماضي الرعب في قلوب الرحًالة والمستشرقين الأوائل. إنه بدوي جديد ُممتلك للحية كثة غير مهذبة وطويلة ويرتدي ثيابا (تقصر عن الركبة بضعة سنتيمترات. وبالطبع يمكن للأسنان رمزيا)، أن تحيل الناظر أو متلقي الأسطورة إلى نمط من (حيْوَنة) للإنسان المجرد، للحطِّ من آدميته الطبيعية، بتحويله إلى (حيوان) كاسر أو ذئب أو ما يشبه الذئب، فيما يمكن لصورة أخرى موازية، يظهر فيها البدوي القديم نفسه في صورة رجل له لحية طويلة وكثًة؛ أن تؤدي الغرض نفسه: غرض إعادته إلى البدائية الأولى وإرغامه على النكوص في أعين مشاهديه المباشرين على الأقل، عن حالته الآدمية ولينتقل إلى حالة ما قبل مجتمعية.إنه شخص بدائي ينتمي إلى طور ما قبل المجتمع البشري. كان بدائياً في عصر الاستشراق الكلاسيكي وهو لا يزال كذلك في عصر ما بعد الاستشراق؟ هذه هي الصورة التي يستمتع برؤيتها منظرو ما بعد الاستشراق للبدوي القادم من الصحراء القديمة نفسها، أي من (بلاد الماضي) كما كان يحلو للرحالة أن يقولوا في وصفهم للعرب على هذا النحو راح جيل جديد من منتجي الأساطير في الثقافة الأمريكية والأوروبية، وفي سياق تطوير واستكمال مهمة الاستشراق القديم عبر نقله نهائيا (إلى عصر ما بعد الاستشراق؛ يقبلون بنهم على كل خبر ويتلقفون كل بلاغ حتى وإنْ كان كاذباً، عن جماعات إرهابية من ذوي اللحى تستعد لعمل شرير ضد مدنية الغرب. هذه الجماعات المُصّورة كما لو أن كل عملها هو أن تدّرب انتحاريين على الموت، ومن دون أي هدف يستحق التضحية وطوال الوقت ومن دون توقف؛ ليست سوى جماعات من المسلحين والمتمردين الذين قرروا القتال حتى الموت من أجل إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء في الشرق الأوسط، حسب قول الرئيس الأمريكي بعد التاسع من أيار - مايو 2003م، حين ظهرت أولى الإشارات عن مقاومة عنيفة في بغداد. وبالطبع من أجل تدمير عملية السلام في فلسطين كما قال الأمريكيون فيما بعد، أي من أجل الإرهاب مجردا (من أي بواعث أو أسباب. وهذه صورة نموذجية لأغرب نوع من أنواع القتال يمكن للمرء أن يسمع عنه؛ إذ لم يحدث أن قاتل إنسان من أجل أهداف خيالية أو لا معنى لها، فالبشر لا يقاتلون حتى الموت إلا من اجل أهداف واضحة ومصيرية ومهما كان رأينا بها. على الأقل لا بد من أهداف واضحة للقتال حتى الموت، من أجل أن تكون جذابة أو مقبولة وذات طابع شعبي، كما هو الحال مع العمليات الاستشهادية في العراق وفلسطين. هذه الأساطير الجديدة التي تقبل عليها النخبة العربية الثقافية والفكرية بنهم وربما بقدر مثير من الشغف والافتتان بصناعتها، بل وتعيد إنتاجها في ثقافتنا المعاصرة وتقوم بالترويج لها دون تحسبّ، لم تنتجها شعوب وجماعات بدائية (نيئة) بحسب تعبير كلود ليفي شتراوس، في مقارباته المذهلة عن (النيء والمطبوخ) عند الشعوب البدائية. منْ يقوم بإنتاجها اليوم صحفيون وإعلاميون ومعدو برامج وكتًاب افتتاحيات في كبريات الصحف الأمريكية والغربية، ويساهم فيها جامعو معلومات يتعاونون مع البنتاغون وحتى (أنثروبولوجيين جدداً)، يكتبون عن الشرق القديم والشرق الجديد فيما هم يتبادلون النكات الساخرة من وراء طاولات مكاتبهم عن (البدو المتوحشين) في الشرق الأوسط. وتلك هي المفارقة.

كما أن الجماعات الموصوفة بالبدائية والتخلف وغير الديمقراطية (في كتابات ما بعد الاستشراق) هي جماعات وشعوب عربية - إسلامية لا تزال تعيش تاريخها داخل عقل أسطوري مغلق، ولم تتمكن بعد وربما لن تتمكن أبداً من تخطي مرحلة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة مهما حاولت أو حلمت أو سعت بدأب بحسب مزاعم هؤلاء. واحدة من هذه (الأساطير اللذيذة) التي يسردها ما بعد الاستشراق تتصل بشكل عضوي بالعراق. ولنقل أن العراق كان موضوعها الأثير استباقا (لغزوه أو تمهيدا) للاستيلاء عليه.

تقول الأسطورة كما سردتها صحيفة كريستيان ساينس مونيتر الأمريكية المسيحية اليمينية، وأعادت (ذي صن) البريطانية روايتها مراراً وتكراراً طوال سنتين من الاحتلال؛ إن إغراء بن لادن في أوساط الشباب المسلم والمتعصب في العراق لا يقاوم. فالجماعات المسلحة هناك ترتبط به، وهي باتت من القوة والنفوذ بحيث إنها تستطيع التحرك بسهولة وسط السكان كما لو أنها شبح.

من مكان إلى مكان، إذن، وعبوة ناسفة إثر عبوة أخرى، وانتحاري مجنون بعد آخر؛ راحت صورة العدو الجديد في العراق تتشكل في المخيال السياسي للمواطن العادي في أمريكا وأوروبا. إنه نفوذ خرافي متشابك وعضوي يدفع إلى التساؤل: هل حقا (بزغ هذا الخطر في العراق تلقائياً عن الغزو الأمريكي، أم أن هذه الشبكات كانت موجودة هناك قبل سقوط بغداد؟

تنتسب أسطورة القاعدة، كما جرى تداولها على نطاق واسع منذ غزو العراق، بوصفها القوة المُنظمة الوحيدة القادرة على تدبير هجمات منسقة وناجحة ضد قوات الاحتلال؛ إلى المخيال السياسي والثقافي الاستشراقي القديم، بأكثر مما تنتسب إلى مخيال سياسي وثقافي ما بعد استشراقي. وهذا مصدر آخر من مصادر الالتباس والمفارقة في خطاب النخب العربية، التي انساقت وراء الأسطورة وراحت تعيد إنتاجها محليا) في الصحف العربية. بيد أن أسطورة القاعدة في العراق تعيد إلى الأذهان مع ذلك، الطريقة التي تخيًل فيها الاستشراق الكلاسيكي، الشرقَ العربي منذ مطالع القرن الماضي. وباستخدام تعبير إدوارد سعيد، فقد تمت عملية َشرْقَنة نموذجية. لكنها من طرف موازٍ طريقة تثير وبشكل متلازم، ما هو أبعد من الإطار الافتراضي الذي نضعه هنا، وذلك ما تمكن ملاحظته عند أول محاولة لاختبار هذه الَشْرقَنة.

ثمة إشكاليتان في هذا النطاق.

الأولى: وتتصل بالسرد الجديد لأسطورة الخوف القديم من البدو ذوي الأسنان الطويلة. لقد اكتسبت هذه الأسطورة شعبيتها في الماضي ومن خلال كتابات الرحًالة والمستشرقين الأوائل منذ عام 1802م، من قدرة السرد الاستشراقي الكلاسيكي على إضفاء أجواء شبه توراتية في الغالب على مشاهدات الشرق، وذلك باستخدام منظورات سحرية وغامضة ذات طبيعة شعرية في الغالب، وبحيث يظهر البدو كمجموعة من العرب المتوحشين الجاهزين والمستعدين للقتل. هذا التحفيز الخيالي للقتل ولارتكاب الجريمة، ومن دون أي بواعث حقيقية كالدفاع عن النفس أو الخوف الغريزي؛ شكلت الأساس المتين لفوبيا ما بعد الاستشراق، التي تكاد تطغى اليوم في وسائل الإعلام الأمريكي والأوروبي. ولكن، لئن تحولت أسطورة (البدو ذوي اللحى الطويلة) إلى ما يشبه أسطورة جديدة عن العدو نفسه القديم والأزلي، الثابت والنمطي؛ فإن التحول الأهم سوف يتجلى لا في الصور النمطية وحسب، وإنما كذلك في شكل السرد وأسلوب بناء القصص الجديدة عن الشرق. ولأنه سرد جديد ينتسب إلى تقاليد سردية وتقنيات قادرة على الإيحاء بأنها تمثل، من منظور شكلاني، قطيعة مع صور الماضي بأسره، وانتقالا بها إلى مستوى أكثر تعبيرا (عن أبهة الحاضر وحتى حاجاته ووظائفه؛ فسوف نرى ومن خلال تفكيك ومقاربة المعطيات والصور، وبما يشبه الإحساس بالصدمة والذهول حقا)، إنها ليست سوى استكمال وتطوير بأدوات جديدة للصور والسرديات القديمة ذاتها، وأن من ينهض بعبئها اليوم ليس هو بالضبط ما بعد استشراق حقيقي كامل الأدوات؛ بل استشراق كلاسيكي معتاش على إرث متآكل ومهترئ من قصص وصور الرحًالة الأوائل. بكلام آخر؛ فإن ما بعد الاستشراق سيبدو علماً زائفاً لا قيمة له، وأنه ليس سوى استشراق قديم بأدوات جديدة. هذه الأساطير هي، ومن حيث مضمونها الحقيقي والمباشر، تبدو وكأنها تسير بمحاذاة الصور القديمة المتخيًلة، بينما تبدو من حيث تقنيات السرد الحديث، وكأنها تقوم على العكس من ذلك، بسردٍ أكثر تنظيما وجاذبية لما يُعرف (بصناعة الخوف). إن صناعة الخوف واحدة من أكثر وظائف أساطير ما بعد الاستشراق افتضاحا، وهي صناعة رائجة اليوم في الإعلام الأمريكي المعاصر وفي مؤلفات جيل من الكتاب والمستشرقين الجدد. إن مقالات توماس فريدمان مثلاً، عن العراق وسورية وفلسطين، تعطي انطباعا (فوريا) للمتلقي بأنها مصممة من أجل هذا الغرض: صناعة الخوف ونشره في العالم كله من (أشباح) و(أشرار) تسمع خطاهم في طرقات الغرب.

ليست (القاعدة) في كتابات فريدمان سوى شبكات عالمية أخطبوطية هائلة القوة، يقودها في الخفاء رجال ذوي لحى طويلة. أما الذين يتجولون في شوارع الغرب سرا (أو يتسترًون على أنفسهم في هيئة (خلايا نائمة) فليسوا في النهاية، سوى مجموعات من المجانين الذين لا يتوقفون عن تهديد حضارة ومدنية الغرب بالفناء. هذه المجموعات كما يبيًن الإعلام الغربي يوميا) ومن دون توقف، تمكنت بسرعة خارقة من بناء قواعد متناثرة ولكن متماسكة ومترابطة الحلقات مثل المسبحة. لقد تلقفت النخب العربية الفكرية والثقافية وحتى أوساط من العامة، هذه الأسطورة كما سردها صحفيو وسياسيو غرب ما بعد الاستشراق، وقامت على غرار ما فعلت النخب الغربية والأمريكية تماماً، بتنظيم نفسها جيدا للدفاع عن صدقية هذه الأساطير، بل وصّد المشككّين والمصدومين وحتى المتحفظين إزاء حدود ودرجة الواقعية فيها. لقد تلقفتها لا بوصفها أسطورتها الخاصة والمفضلة وحسب، وإنما أيضا بوصفها روايتها هي عن العالم والتاريخ والأحداث وليست رواية الغرب الذي استسلمت له. ولذا راح جيل جديد من الكتاب العرب ما بعد الاستشراقيين مثلاً شاكر النابلسي في مقالاته الصاخبة عن الليبراليين الجدد والتي يحييً فيها منتجي هذه الأساطير وينسج على منوالهم أساطيره ما بعد الاستشراقية، أنظر الليبراليون السوريون الجدد ينهضون: موقع رزكار على شبكة الإنترنت وانظر: كريم مروة (المعادون للإمبريالية ومستقبل العراق (طريق الشعب العراقية في 7 أيلول- سبتمبر 2004م).

الثانية: وتتصل بإشكالية وعي الآخر لهذه الحرب. إن السرد الصاخب في وسائل الإعلام المرئية والصحف وشبكات الإنترنت، لأسطورة الحرب على الإرهاب، يحفًز باستمرار على رؤيتها كرواية مصنًعة ولا تخلو من التلفيق والتزوير.

وبالنسبة للعربي فإن هذه الحرب لا تعني شيئاً آخر في وعيه كمسلم، أكثر من حرب على الإسلام.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة