Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

الرؤية الاجتماعية في روايات عبد العزيز مشري «2»
الواقع الاجتماعي
د.سلطان سعد القحطاني

 

 

نظر عبد العزيز مشري إلى مجتمعه نظرة واقعية، لم يتكلف فيها، فمن عادة المسافر إحضار الهدايا، وعبر عن واقع الحال في ذلك الموقف المعبر عن الحاجة وشح المورد، وانتظار المسافر ليجلب للأسرة ما يحتاجون إليه؛ فالأم ليس عندها ما تقابل به الأب الغائب من ملابس الأبناء التي تليق بمقابلته بعد طول غياب إلا ما تجده وتخزنه لمثل هذا اليوم، وهو ثوب واحد لكل المناسبات، وحرص الأم على هذا الثوب شديد، وذلك دليل على الحالة الاقتصادية، فتغسله وتخضبه بالنيل الحافظ للون من أن يبهت لونه، ليقابل به والده الغائب.

وعندما يعنون الكاتب أحد فصول روايته بعنوان ذي دلالة اجتماعية (النافذة) فإنما يعني من ذلك وضع المجتمع في السابق والآني؛ ففي السابق لم يكن للمجتمع نافذة يطل منها على العالم من حوله، مجتمع مغلق مكتف بما عنده من الإمكانيات الحياتية، واليوم فتحت نافذة على العالم القريب، عن طريق أبنائه المهاجرين. والنافذة تعني في مدلولها وجودها داخل بناء مصمت، وفي داخلها أناس يطلون من خلالها على الخارج، يطلون على فضاء يضم أبناء هذا المجتمع الذي تركوه مؤقتاً لجلب الرزق من مكان آخر، أولئك الذين ذهبوا إلى مكان آخر، ينتظرهم الذين لم يذهبوا من كبار السن، والأطفال، أما الأطفال فينتظرون الهدايا العينية، وهي تعني لهم الشيء الكثير، أمام زملائهم، الذين ربما نافسوهم في مثل هذه الهدايا في يوم من الأيام، وتباهى كل منهم بما جلب له أبوه من سفره، من خلال هذه النافذة الصغيرة، وصار السفر والهدايا حلم كل منهم، متى يكبر ليسافر ويجلب الهدايا لأهله، أو يجمع المهر للزواج من الفتاة التي وضعت أمه العين عليها، مثلما هي أمه التي تزوجت من أبيه، وأنجبته، وسافر أبوه إلى بلاد يتمنى أن يراها رؤيا العين، فقد رآها في الصور مضاءة بالكهرباء، وتقول أمه: إن أباك يعمل سائق تاكسي في تلك البلاد، يقول: غسلت أمي ثوبي (البفتة) الأبيض، وضمخته بالصبغ النيلي حتى بان على حبل الغسيل.. تحت الشمس، وكأنه زهرة لوز في ربيعها. نهتني عن لبسه يومها، وأمرتني بالحفاظ على عمامتي.. فأبي سيصل خلال أيام خمسة، أو ستة، وإن طال سبعة (أسبوع)... من السفر.

للفرحة في النبض رفس، وللرفس معنى للهدايا الجميلة، قل حذاء جديد.. قل طاقية مزركشة باللون والقصب.. قل قلم رصاص ودفتر بعشرين ورقة بياض.. ولا تقل لعبة.. فاللعب يضيع الهمة وينسيك الدرس، وتكاد أمنيات الطفل أن تقف عند حدود الهدايا، فبقدر حاجته لها، هناك حاجة أهم، وهي أن يظهر بمظهر يباهي به أقرانه في المدرسة وفي القرى المجاورة، وأمام هذا المجتمع الصغير، لم تكن رؤية الكاتب الاجتماعية قد جاءت من فراغ، إنها التجربة الفنية التي يمكن تطبيقها على كل شرائح المجتمع في هذه المنطقة، يجلس الطفل بجانب جده على السجادة الخوص، بعد أن أوهمه أنه توضأ لصلاة الفجر، ويرفع صوته بما يحفظ من القرآن الكريم، ويعده أنه سيحفظ جزء (عم) عما قريب، لغرض كسب الرضا من الأب الأكبر، وهذا في حد ذاته دلالة على الروح الإيمانية لهذا المجتمع، الذي لم يدخل المدارس ولا الجامعات، دليل على أن الدين متوارث في المجتمع، وأن هذا الطفل يرتقب له مستقبل يبشر بخير. أما كلمة (الشايب) فتعني في مجتمعنا (التقدير والهيبة) وليس بمعنى الكبر؛ فالشايب تعني كبير القوم وصاحب الكلمة النافذة.

كانت ليلة ترقب وصول الغائب، بدون تحديد، فإمكانيات السفر غير دقيقة في الترحال والوصول، لكن المجتمع الصغير (العائلة) تتجمع في بيت كبير العائلة (الشايب) كأسرة واحدة، يلتقطون أخبار الغائبين، لذلك يرسم الكاتب لنا لوحة اجتماعية بقوله: (حين امتلأ بيتنا بعماتي المتزوجات، وعمات أبي وأقرباء آخرين، كانت تلك ليلة تجمع الكل تحت سقف خشبي تنبسط في أرض حجرته وليمة بصحن كبير، من الأرز واللحم. سألت أمي، وكنا أنا وإخوتي نتجمع حول النار المشتعلة في ليلة شتاء ممطرة:

- لماذا يسافر أبي عندما يأتي الشتاء؟

قالت وهي تحرِّك أطراف الحطب وتدفع به إلى وسط النار، دون أن تنظر إليَّ.

- أبوك سافر يشتغل في التاكسي، ووقتما يجيء الحر يترك شغله ويجينا).

أعطى الكاتب رؤيته الاجتماعية، تجمع الأسرة، حول كبيرهم، وسفر الأب في وقت الشتاء، يعني اعتدال الجو في المنطقة التي يعمل فيها، ووجود البرد في منطقة السروات في فصل الشتاء، إضافة إلى استعداد الطفل للذهاب إلى المدرسة، مستعيناً بما معه من الزاد، من الإنتاج المحلي (قطعة خبز من البر أو الذرة، قد تلتصق بأحد الدفاتر، تسد رمقه مع قليل من الماء....). وإذا كان الطفل يحفظ في ذهنه ما يهمه من الهدايا التي يترقبها من أبيه، فإن الأب الأكبر، جده (الشايب) يترقب أكبر من ذلك فيما يخص الحياة الاجتماعية، فالهدايا التي يظهر بها الطفل تعبر عن رجولة ابنه المسافر وحفظه لما اكتسب من مال في غربته، والقياس في ذلك ما يظهر أمام المجتمع، فيفخر الأب بما حققه ابنه - كبناء بيت جديد، أو جلب فرش جديد غريب، وما يتبع ذلك من هدايا للكبار والصغار. كل ذلك يعد مفخرة لجد الطفل أمام أهل قريته والزائرين لها، ويؤثر في نفس الوقت في الآخرين الذين سيسعون لتقليده. الجدة والأم وكل أفراد العائلة يفخرون بما يقدمه الغائب عند عودته، ويحرصون على إظهار ما يجلبه أمام الآخرين.

كانت الحياة الاجتماعية - بحلوها ومرها - تشغل معظم روايات عبد العزيز مشري، في سرد واقعي، فاليوم ممطر، والجد (الشايب) غائب عن البيت لفترة طويلة جعلت الأسرة تقلق بسبب هذا الغياب غير المعهود، والشمس قد غابت، وليس من عادة الجد الغياب إلى هذا الوقت، وعندما دخل وقت المغرب، الذي علمت الأم بدخوله من محطة (نداء الإسلام من مكة المكرمة) بواسطة الراديو.. دخل الجد، وبيده مظلة سوداء، يتقي بها زخات المطر، وتلقى عتابا من الجدة: (وينك يا مخلوق... خفنا عليك؟)، وكان الجد هادئاً سعيداً بقدوم المطر، فلم يعلق على ما قالته زوجته، بل هنأ الجميع بالرحمة؛ أي أن المطر رحمة من الله: (هنيتم الرحمة.. هنيتم الرحمة، الحمد لله المطر عمَّ العالي والواطي، ثم يجيب سؤال الجدة: (كنت عند (أبو جمعان)، وما قدرت أجيئكم وسط المطر). إن للمطر في الحياة الاجتماعية عدداً من المعاني، فهو رحمة من الله - تعالى - للبلاد والعباد، وهو مظهر من مظاهر الحياة في الجزيرة العربية، وهو عقاب من الله، لبعض الناس، كسيل العرم، وهو رحمة للمزارع، وهو عذر لمن لا يريد الذهاب إلى المدرسة، في الجبال والمرتفعات.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة