Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

قراءة«1» في رائعة حمزة شحاتة
تجليات الجمال في التناغم الموسيقي في نص (جدة)
زهير بن حسن العَمري*

 

 

النهى بين شاطئيك غريق

والهوى فيك حالم ما يفيق

ورؤى الحب في رحابك شتى

يستفز الأسير منها الطليق

ومغانيك في النفوس الصديا

ت إلى ريّها المنيع رحيق

إن قراءة الدلالات الموسيقية للنص تبدأ من (أما بعد) أي تترك ما قبل النص من مؤثرات ترتبط بزمن النص وقائله، ونسيان المؤثرات الخارجية، والنص يرتبط به الجمال أولاً ويرتبط به أخيراً، وسنبحث عن الجواهر الثمينة في الجانب الموسيقي الذي أرى أنه أضفى على القصيدة حلة جمالية كبيرة.

النغم الموسيقي (الداخلي) في النص

* إن التعريف الأكاديمي للحديث عن الموسيقى يلقي بظلال أولية حول المسألة، فهو يقول إن الموسيقى هي (فن تآلف الأصوات الموسيقية المنسجمة لتعبر عما يجول بالنفس)، وقد أحس بعضهم أن هذه الأصوات لا تكتفي بالتعبير، بل هي قادرة أيضاً على خلق مواقف نفسية، ورسالة الكندي (رسالة في خبر تأليف الألحان) تناولت باستفاضة واسعة الموسيقى وإيقاعاتها وعلاقاتها بالشعر والأوزان الشعرية، مع شرح مطول للموسيقى وأثرها النفسي على المتلقي. ولذلك سنحاول في هذه القراءة البعد عن البحر والوزن لنغوص في الموسيقى الداخلية لهذه الرائعة.

قال شحاته في مطلع قصيدته:

النهى بين شاطئيك غريق

والهوى فيك حالم ما يفيق

استهلال موسيقي من الشاعر وظف فيه طقوساً مناسبة لهذا المكان (جدة) في جو هادئ، ولا نرى سبباً لهذا الهدوء، إلا أن المكان قد تلقح بالمناخ الشعري الذي يلفه، خصوصاً الهدوء، ففي البيت الأول استخدم الشاعر التصريع، وهو لون من الألوان البديعية التي تلبس القصيدة طابعاً جميلاً ونغمة موسيقية متناسقة، واستطاع أن يوافق فيه بين خصائص الأحرف، وبين ما تدل عليه من معانٍ إيحائية وإيمائية.

في هذه القصيدة عناصر التحول بأشكالها الثلاثة: (الحركة، والصورة، واللون)..

- الحركة: ومدارها هنا هي الاستمرارية في السير في أحياء جدة وشواطئها، فالشاعر لا يكل ولا يمل من الركض، فسحر (جدة) قد أنساه التعب والإعياء، فهو لا يأبه لذلك مطلقاً.

وجاءت الحركة مستمرة في النص وذلك بدلالة الأفعال المضارعة التي كانت غالباً ما تتصدر كل بيت من القصيدة: (يفيق، يستفز، يكر الزمان، يذوب الجمال، يثنيه عن مناه، يروي مشاعري ويروق، يحرك الرفق والعز...)، فكان لهذه الحركة صداها ووقعها الموسيقي على أوتار القصيدة (الألفاظ، والمعاني)، فجاءت رنانة عذبة.

- الصورة: إن الحركة هي التي أنتجت لنا الصورة في إطارها الكلي الذي يتمثل في الرسم الهندسي والتقني لمدينة (جدة)، واتكأ الشاعر على استحياء صورة البحر أبرز الأمكنة في (جدة)، وقد يكون سبب ذلك، لأن ما يميزها عن غيرها من مدن الحجاز هي امتدادها الكبير على شاطئ البحر، فوجدنا عند شحاتة (أمواج)، (ونسيم)، و (أغنية للشط)، وهناك طيور البحر تحلق فوقه منشدة أعذب الألحان، وهناك حالات من الغرق العاطفي لكل من يعيش في هذه المدينة الآسرة.

- اللون: وهو ليس لوناً ملموساً (أي كالأخضر والأحمر.. إلخ)، بل هو لون معنوي، وما نقصده هنا باللون الجدة في هذه المدينة، فهي ترفل بالحسن، فالعشق تولد من الجمال الذي يكسو هذا المكان، ولعل الصور الجمالية التي أرادها الشاعر منبعها استحضار الصورة الماضية لهذه المدينة العريقة وكأنها صورة حية مشاهدة:

لي ماضٍ لم أنسه فيك قد غ

ص بشدوه غروبه والشروق

فالزمن الماضي (غير موجود)، والصورة (موجودة)، ولقد انبثقت عن نواة صورة شحاتة عن (جدة) صوراً متنوعة ومترابطة ومتداخلة ليؤكد من خلالها مفهوم التحول الذي تجسد في كيان القصيدة.

إن كيان القصيدة يسهم بانتصار شحاتة على الغناء، ويرسم رؤاه في مادة الكلمات.. فمهمة الشعر تعميق الإحساس بالوجود، وتحقيق حضور الجمال، والشاعر يتكئ على نوع من الأبدية حتى وهو يصور لحظات خاطفة.

عمل شحاتة على تخصيب مادة الصورة الأولية، فجاءت الألفاظ حبلى ذات دلالات كثيفة، وتخصيب الصورة كان على طريقتين:

أ - بالتركيب الموسيقي الخارجي (القافية).

ب - بالموسيقى الداخلية المتناسقة (تناسق المفردات والتراكيب).

وأظهرت الغنائية العالية في البنية الداخلية للقصيدة تنغيماً ينبئ عن صياغة ماهرة من شحاتة، فالمناخ الشعري الذي يعيشه كيّفه تكييفاً خاصاً ل(جدة)، فنزف من آبار الحب الجوفية التي تسكن في أعماقه لهذا المكان، ومعها ظهرت ألفاظ رقيقة، لنرى الشاعر في حالة من العشق والهيام الأبدي (لهب الحب، الرقيق، رشيق، خفوق، يذوب الجمال...).

ونلحظ الصعود والهبوط في الإيقاع الموسيقى للنص، فالنص من مطلعه كان يسير في وتيرة عالية بداية من المطلع المدهش، لكنه سرعان ما بدأت هذه النغمة تأخذ في النزول التدريجي، ووصلت إلى أقصى درجة من الهبوط عند البيت الرابع من القصيدة.

إيه يا فتنة الحياة لصب

عهده في هواك عهد وثيق

ولكن بعد ذلك بدأت في الصعود التدريجي، وهكذا سارت القصيدة في الارتفاع والانخفاض، كما تأخذ أمواج بحر (جدة) في المد والجزر، فكذلك استمدت هذه القصيدة من البحر نغمة الصعود والهبوط.

القافية في نص شحاتة

يتفق الجميع بلا شك على أن الموسيقى الخارجية في النص الشعري أو الأدبي عموماً تتشكل من عملية تحقيق التآلف عبر النظم بين عناصر تكوين الصوت الموسيقي، ومادتها الأساس هي الكلمة واللغة.

ولعل الموسيقى الخارجية أو الظاهرة كما يجب أن يدعوها بعضهم لا تحتاج إلى كبير عناء في التأكد من تحققها في النص من عدمه.

ولذلك نقول إنه أجاد في اختيار حرف (القاف) قافية لهذه القصيدة وذلك لاتساقها مع الحالة النفسية القلقة التي يعيشها، لكن هذه القافية الجميلة شابها شيء من الذبول حينما كانت يراوح الردف فيها بين الواو الممدودة والياء الممدودة، فهذا التنويع قد أضر بجمال القصيدة.

وبما أن النص الشعري حافل بالحركة والحياة والتنامي عمد الشاعر فيه إلى اختيار الحروف اللينة السهلة المهرج التي تومئ بالاستمرارية والتقدم، ولذلك فلا غرابة، إذ اختار الشاعر حرف (القاف) لقافية القصيدة المتحركة المتجددة، فيضيف القاف استمراراً وانطلاقاً وتجدداً نحو المستقبل.

ونوع شحاتة في الحرف الذي يسبق القافية، وهو الردف (وهو حرف المد الذي يقع قبل حرف الروي من دون فاصل)، فمرة أتى بالياء، وأخرى بالواو، ولقد جاء الياء في (16) بيتاً، وجاءت الواو في (11) بيتاً.

أ - الياء قبل حرف الروي:

حبذ الأسر في هواك حبيساً

بهوى الفكر والمنى ما يضيق

ب - الواو قبل حرف الروي:

مقبلاً كالمحب يدفعه الشو

ق فيثنيه عن مناه خفوق

ولو كان شحاتة التزم حركة واحدة بعينها قبل الروي، لأكسب القافية نغماً وموسيقى أقرب إلى الكمال، ولكن ما استخدمه شحاتة من تناوب بين ياء المد وواوه قلل من هذا الكمال، ولقد وجد المحدثون من علماء الأصوات اللغوية تشابهاً بين واو المد وياء المد، فيجوز تناوبهما لتشابههما في طريقة تكوينهما. فالسامع قد يخطئ في سماع واو المد، وتطرق أذنه كما لو أنه ياء مد. والطفل في مراحل نمو لغته قد يقلب الضمة كسرة أو قد يقلب واو المد ياء مد، فالطبيعة الصوتية بين كل من الحركتين هي التي ربما تبرر تناوب إحداهما مكان الأخرى، وذلك لما بينهما من تشابه صوتي.

ونوع شحاتة في نوع القافية بين الأسماء والأفعال، وتارة نرى القافية اسماً، وتارة أخرى تكون القافية فعلاً، ولقد جاءت اسماً في (24) بيتاً، وجاءت فعلاً في (3) أبيات:

أ - القافية اسم

ورؤى الحب في رحابك شتى

يستفز الأسير منها الطليق

ب - القافية فعل

(جدتي) أنت عالم الشعر والغنو

ة يروي مشاعري ويروق

* باحث وناقد سعودي

(1) مما لا شك فيه أن القراءات المتعددة للنص الواحد تعني إثراء النصوص الأدبية، وكثرة القراءات تؤدي إلى تراكم الثقافات والخبرات، ويحتاج هذا النص عدداً من القراءات سواءً في الجانب الدلالي، أو الجانب الجمالي، والأكيد أن كثرة القرارات تجعلنا نكتشف أكثر من دلالة للنص الواحد، كما تكشف عن غنى النصوص الأدبية وقابليتها للتأويل إلى معانٍ متعددة، وهي تختلف عن القراءة الأولية التي لا تعطينا حساً نقدياً ناضجاً.

www.ffnff.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة