Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
مداخلات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 
العقاد في صومعته

 

 

تصوير الحياة البيتية لأديب عملاق كالعقاد شيء من الصعوبة؛ فهو رجل صعب المراس قوي الشكيمة سريع الغضب حاد الطبع والمزاج.. وبقدر ما تكون العبقرية قوية في صاحبها تكون صفاتها متغلية، وهي بطبيعتها غليان فكري في حين أن الحياة البيتية بطبيعتها هدوء وسكون، فإذا قويت العبقرية وتغلبت صفاتها فهي التي تبرز دائما أمام العيون، وحينئذ لا يكون من السهل أن يتبين الإنسان حقيقة الصفات الأخرى التي هي من نوع عادي.

أول ما يلاحظه الإنسان القريب من العقاد شخصيته القوية التي يملك بها محدثه والتي هي بعض من عبقريته.. لم يقدر الله للعقاد أن يكون أبا، فهل مع ذلك يعرف شعور الأبوة أم لا؟..

هذه قصة تدل لنا على معنى الرحمة والأبوة والإنسانية لدى العقاد، حيث كان العقاد يسكن أحد أحياء القاهرة، وفي نفس البيت كانت تسكن أسرة، وربطت بين الأسرة والعقاد أواصر الجوار والصداقة، فكان العقاد يزورهم. ويموت عائل هذه الأسرة وتبدل حياتهم إلى الصعب بعد الرغد، ولاقت الزوجة وبناتها ما لاقت من عنت الدنيا وقسوة الأقدار.. ومع الأيام كان نجم العقاد يعلو في سلم المجد، ورغم ذلك كان لا ينقطع عن زيارة تلك السيدة ويمد لها يد المساعدة. وتتزوج السيدة من رجل يعمل في المقاولات وتشاء الظروف أن ينعكس الحال في وجه هذا الرجل فتضيق الدنيا به وتتبدد ثروته ويرزق بنتا تلدها زوجته وتموت هذه الزوجة بعد ولادتها بساعات فيذهب العقاد للعزاء ويسأل عن مصير المولودة الصغيرة بعد وفاة أمها فيعلم منهم أنهم سيسلمونها لأحد الملاجئ التي ترعاها الحكومة، فيهتز قلب العقاد لذلك فيطلب من أبيها أن يسمح له أن يرعاها ويتولى الإنفاق عليها حتى تكبر، فيرحب الرجل الفقير بتلك الأريحية التي أبداها العقاد، وتتعهد أختها الكبرى أن تشرف على تربيتها على نفقة العقاد، وكانت تتردد عليه في بيته حتى آخر أيامه في الحياة فوجدت الفتاة من العقاد عطفا أبوياً، فكانت تخاطبه (بابا الأستاذ)، فكان يشتري لها كتبا دراسية أو ملابس وغير ذلك، ولكن هذه الفتاة لم تحتمل صدمة وفاة العقاد فآثرت أن تموت معه وفاء لذلك الرجل الذي أغدق عليها ذلك الحب الكبير، فعمدت إلى بعض أقراص سامة تناولتها فماتت في نفس اليوم الذي مات فيه العقاد. يقول العقاد من خلال مذكراته (إن في السماء قلم حسابات دقيقا لا يمكن أن ينساني).. ثم يعقب بما عرف عنه من فكاهة في مثل تلك المواقف فيقول (لكنه لا يعطي بسخاء)، فكثيراً ما تمر بي أزمات مالية وتضيق لدرجة لا يطيقها غيري، وفجأة أجد الله يسوق لي رزقاً مالياً يفرج الكرب، ولكنه لا يزيد على المطلوب. ويروي أحد أصدقاء العقاد الذي عاش معه تلك الأيام أيام العسرة والشدة أن العقاد اشترى يوماً ورقة يانصيب وتصادف أن ربحت جنيهين فقط، وقد صرفهما العقاد وصاحبه على عشائهما في ذلك اليوم بأحد المطاعم الفاخرة. ويضيف الصديق أنه اقترح علي العقاد ذلك اليوم أن يتعشيا شيئاً خفيفاً ويوفر باقي المبلغ لليوم التالي، ولكن العقاد أصر عل دعوته في ذلك المطعم الفاخر الذي كان يغشاه أصحاب الثروات من أعدائه السياسيين قاصداً بذلك أن يغيظهم ويجعلهم في حيرة من أمره، حيث كانوا يظنون أنه يموت من الجوع.

العقاد ظاهرة عجيبة في دنيا التطاحن والصراع والزحام.. فكيف كان يعيش ذلك المتوحد الشامخ؟..

لقد ذهب الناس في الجواب أشتاتاً: رآه قوم هادياً كالشعاع، عالياً كالمنار، وارفاً كالظل، زاخراً كالنهر، عميقا كالبحر، خصباً كالوادي، عنيداً كالجبروت، لا يرجو ولا يخشى، إذا تكلم أسمع، وإن حاج أقنع، وإن عادى أفحم، سلاحه لا يفل، وصبره لا يمل، وجسده لا يكل.. لقد امتاز العقاد في جميع أدوار حياته بأنه رجل يسبق عصره، فهو من أولئك النفر الذين يسيرون دائما أمام جيلهم ويدفعون إلى الأمام بكل جيل يعاشرونه.. والعقاد كان من الذين يثقون ثقة تامة بالعناية الإلهية، ويخلصون لها في السر والعلن، ويعتمدون عليها اعتماد الصدق والتقوى.. وللحديث بقية.

عبير عامر العقاد


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة