Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
مراجعات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

 

أول الغيث

أحمد بهكلي

124صفحة من القطع المتوسط

نعم أول الغيث قطرة ثم ينهمر كما يقول الشاعر.. ولكن غيث الشعر ليس ماء نعبه وسط أفواهنا كي نقتل به الظمأ.. إنها مشاعر تجيش داخل نفس الشاعر محاولاً بها قتل جفاف النفس.. وقحط الحس.. هذا ما عناه البهكلي في ديوانه.. بقي أن نتعرف إلى أي مدى أعطى نهلا يمكن اغترافه.. واستلطافه..؟ أحسن أنه أعطى.. هذا ما سوف نتعرف عليه من خلال استقراء سطور ديوانه:

بداية جاء خطابه الشعري لأمه.. والأم حياة.. ووطن.. وحضن دافئ يشعر بالحنان والحب..

أماه أعلم أن الصوت لن يصلا

وأن سيرتد نحوي يحمل الوهلا

عشرين عاماً أنادي لم يجب أحد

حتى غدوت بأني لم أجد مثلا

ملاحظتان: عشرين عاماً لم تسبقها أداة نصب أو كسر.. ومن حقها أن تكون مضمونة.. (عشرون عاماً).. ثم (حتى غدوت) وددت لو أبدلها بكلمة (خشيت، أو ظننت) إنهما أقرب إلى المعنى.. والدة شاعرنا البار بأمه ضاق به الصمت بعد رحيلها جسداً، إلا أن روحها ماثلة وحية بين عينيه.. إنه يخاطبها:

لكنني يا نزيل الغيب ما وهنت

عزيمتي وفؤادي عنكِ ما شغلا

ما زلت أفرش أوراقي وأشرعها

بساط ريح وما أزجى وما انتقلا

بساط ريحه لا تتحرك.. ربما غيوم وهموم أحزانه ثبتتها على الأرض دون حراك.. ماذا يريد أن يقول دون بساط؟؟

عشرون ما فعلت يا أم هل رحمت

طفلاً ترحلتِ عنه صار مكتملا

ما اجتاز ثالث عقديه الربيع وفي

فوديه تذر شتاء جمَّد الوشلا

بيتك الأول يحتاج في آخره إلى علامة استفهام (؟).. (فوديه) تعني بها (فؤاديه) مثنى فؤاد, والواحد يملك فؤاداً واحداً.. أحسب أن الأنسب مفردة (عينيه) أو في (فؤاده) وهو الصحيح.. مقطوعته تحمل الشكوى من عالم اليتم، ولوعة الفراق..

(عجين النار) صوت شعر يتغنى به لأنه ورد خاطره، وحزن حياته, وفرح أمله.. إنه يتنفسه كالماء والهواء لا يقوى على فراقه..

قبل اجتياح الشعر تجتاحني

كآبة أشتاق أن أفرحا

تصطف في جمجمتي أوجه

غريبة تكتب لي ما أمحى

(الجمجمة) مفردة عظيمة لا شفافية لها.. حسناً لو أبدلتها بمفردة (دواخلي) إنها أنسب.. ويسترسل:

حتى إذا ما غاب وعيي بها

وحاولت العينان أن تلمحا

والتقت الذاتان ذاتي أنا

وذات شيء مثل برق امصحا

(وحاولت عيناي) أجمل صياغة.. أما (امصحا) فأجهل المقصود بها.. إن كانت للصحوة فإنها لن تجهدك كثيراً (صحا) تكفي.

وعن عجين ناره الذي يحوجه النضج كي يسهل التهامه.. إلى قبسه: لعله يواسيه.. ويخفف عنه وقع لوعته ومأساته بليلاه..

سدى هذي الدموع، وذي المآقي

فلا تجزح لنازلة الفراق

ألا كم عاشق قد ذاب لهفا

على حلم التواصل والتلافي

(لهفا) الأنسب (لهفة) وكي لا يضار وزن البيت يمكن الاستعاضة بمفردة (شوقاً) أو (حباً) أو (صباً).

فيا قيس اليماني كم تنادي

علي ليلى.. وليلى في العراق

البيت جميل.. لأن مساحة الصوت لا تقدر على قطع مسافة ومساحة هائلة يبن اليمن، والعراق.. ومع هذا صوت العشاق لا يعترف بالمساحات، ولا بالحدود.. لأنه وصت عشق أسرع من صوت الأذن.. إنه يستحث قيساً من مرقده كي يتحرك!

وجُبَّ جمال هذا القفر حتى

تلين، تلين، تصبح كالنياق

هنالك سوف تعبر في هدوء

إلى ليلى، وتفرح بالتلاقي

القصيدة يا شاعرنا لا تخلو من ارتباك يسهل الفكاك منه بشاعريتك.. كذلك البيت الذي طلبت إلى قيس أن يستحث خطاه.. وأن يطبع بها الصحراء كي تلين.. أن يتقمص هو نفسه شخص الناقة لا دورها.. الفكرة واضحة.. والتعبير عن الفكرة مفككة يمكن تداركه لو أنك قلت مثلها:

وجُبّ بعاد هذا القفر طياً

كمن يسعى إلى كسب السباق

عزاء الشاعر.. لا نعرف لمن؟ هذا ما يمكن تلمسه من خلال تجاويف أبياته:

مُتْ كيفما شئتَ إن صبرا وإن كمدا

فالشعر ما راض شيطاناً ولا طردا

كم بات حولك هذا الكون منطفئا

وبتّ يا شاعر الأحزان متقدا

يغفو الخليُّون إن جُنَّ المساء هنا

وأنت طرفك ما أغفى ولا هجدا

إذا نظرتَ يمينا لم تجد أحدا!

وإن نظرت شمالا لم تجد أحدا!

ووحشة.. ووحدة، وعزته تنضح عنها أبيات شاعرنا لمن؟ حتى اللحظة لم يبح لنا بالسر..

يضمّك الوهج العلوي منحدرا

من السماء فتهفو نحوه صعدا

الوهج العلوي لا يأخذ إلى الأسفل لأنه وهج.. الخشية من الوهج السفلي الذي يشد إلى أسفل.. الشاعر يا عزيزي بشعره شعور متحرك يرفض استكانة النفس متى كان صادقاً.. إنه كما قلت:

يفجر الصخر ماء، والطوى شبعاً

ويشعل الثلج ناراً والجفاف ندى

إنه بهذا يخاطب شاعراً.. وشعراً يأنس له.. ويطيب لسماعه:

يا شاعري لست بالعاني، وإن عنيت

هذي القوافي، فلا، لا، لن تضيع سدى

هذه مجرد أمنيته تدغدغ حواس شاهره.. تصطدم بواقع حياة أخرى أقوى من أن تنصت إلى ثرثرة الشعر.. وهمهمة النثر.. الحياة قدرة عكسية على فرض الواقع خارج إطار الفكر..!! الشعر لا أنياب له!

(أول الغيث) اختارها العنوان لديوانه.. يقول فيها:

أول الغيث قطرة يا ضافي

ثم يهمي على السنين العجاف

يرعش الماء ذاهل الطين يحيي

منتهاه مغلغلا في الشفاف

ويندي جفاف نأي الأحبا

ء فما بعد ذا الندى من جفاف

غيث ومطر مقاومة من أجل الحرية.. بدايته قطرة تروي عطش الظامئين إليها.. شاعر الصبر هو فارسها كما اختار لها..

شاعر الصبر أشعل الماء في النار

وما عاد اجرد الظهر حاف

والفيافي التي طوته تلاشت

وطواها بعزمه في لحاف

هو قد كان ذات يوم كموج

دون ريح تزفه للضفاف

واليوم ماذا كان؟

أسرج العزم من مناه بُراقا

مكنته قوادم، وخوافي

ومضى يكتب البطولة سفرا

عبقري الشباب زاهي الغلاف

تتشظى له المنى بحجبتيها

واقعاً مزهراً لحلم قرافي

شاعر الصبر عنوان لفارس يتحدى القهر والعدوان على حقه في الحياة.. إنه المجاهد على أرض فلسطين القابعة تحت نير الاحتلال:

شاعر الصبر قد أحلت هشيم

الوقت روضا مرنح الأعطاف

شاعر الصبر لن تضيع دماء

عطَّرت أنجدا وأحيت فيافي

رمزنا أنتَ في الجهاد ولكن

ما لنا يا رفيق غير الهتاف

مقطوعة معبرة مستصرخة تستحق أن تكون عنواناً..

ومع صغيرته ندى يهدهدها.. ويداعبها في حنو:

صغيرتي ندى... لأنني أذوب في الأطفال

أخشى على الأطفال.. إرثي لهم

سفحت سوداويتي على الورق قبل الغرق

لعل من يقدح عينيه لكيما يشعل الفتيل

يصحو على لثفة طفل لاجئ جميل

يلتاع في لبنان، يهيم في العراق أو إيران، أو في ربا الأفغان

فيشعل الفتيل للقنديل

في مصنع الحليب لا مصانع الحروب

فكرة شاعرنا البهكلي تمر عبر جادة الألم وهو يرقب أفواج المشردين، واللاجئين، والجوعى من أطفال العالم، يذكر طفلته الصغيرة ندى.. بها.. يراوده حلم جميل أن تنتصر السنبلة على القنبلة.. أن يعم السلام، والحب.. أن يعيش الطفل أحلام طفولته دون خوف

وفي مكان القنبلة

تزهر ألف سنبلة

أمنية جميلة لو أنها تحققت..

(عامان) أنشودته لأطفال الحجارة وأبطالها الذين يواجهون مجنزرات المحتل بصدورهم العارية..

عامان مرَّا.. كأن ما مرَّ عامان

وأنتَ تخصبنا قسراً كبركان

عامان يا سيدي ما رفرفت شفة

الا جريتَ عليها نهر ألحان

أنعشت روح الإباء والرفض في جسد

واهٍ.. وأيقظتها في جفن وسنان

ولم يكن لك فيما جئت من مدد

إلا خلاصة إقدام وإيمان

أعلنتَ رفضك للتدجين إذ خنعت

نفوس قوم به في ذل إذعان

ردمت بحر الخيانات التي زكمت

أنوفنا منه لم تعبأ بخوان

ويختتم قصيدته الجميلة المعبرة.. بهذا البيت:

فارجم فديتك وارجم امداد أن أرؤسهم

قد أينعت فارجم القاصي مع الداني

من مواجيد فقير.. فكرة ذات دلالات موحية بكاريكاتوريتها.. فقير يرسم على لوحة حياته رسماً بيانياً من باب.. يرفعه الله إلى أسفل!

انتهى قبل ابتدائي

ما ابتدا بعد انتهائي

وان خمسون قفرا

بين جلدي، وردائي!

انزع البحر برملي

أدفن الصحرا بمائي!

أكتسي عريي وإني!

أتعرى بكسائي!

امتطي وجهي وأرنو

عبر رجلي للموائي

بات مثل الثلج صيفي

بات كالنار شتائي

مثلما الطبلة رأسي

مثلما الوحل حذائي

صور عكسية رسمها شاعرنا باقتدار تعبر عن حياة مخلوق لا رفيق له إلا الفقر:

خطأي الأوحد أني

أنتمي للفقراء

الفقر ليس عيباً.. عاشه الأنبياء.. وذاق مرارته الرسل.. رعوا الغنم.. وواجهوا صعاب حياتهم بالجلد والصبر.. بيت شعر لشاعر:

الفقر! ذقت لحكمة قدسية

حيَّاك في مدلولها الشعراء

لشاعرنا خماسية جميلة تقول أبياتها:

إذا لم تحد غير هذي التباريح في راحتيك

وقد جف من حلقك الريق، والصوت في شفتيك

وما ثم إلا الظلام يعرش في مقلتيك

وخلفك سد، وسد، يقهقه بين يديك!

فمُدَّ إلى كاشف الضر كفيك.. يمدد إليك..

هكذا يسعدنا شاهرنا بصوته القوي.. وبشعره الذي يفيض إيماناً.. وأملاً.. وقوة.. ملاحظة يعرش في مقلتيك أحسب أن (يعشعش في مقلتيك) أقرب إلى المعنى..

أتجاوز بكم ومعكم بعض قصيد شاعرنا اختصار الزمن الرحلة (أشجا الشجا)، (الطاووس) بعدهما ننصت معاً إلى ما يقول:

أقول إن الدجى أزرى به الوضح

والمدلجون بدرب الظلمة انفضحوا

يا فتية في ربا أرض السلام (بخٍ

بخٍ لكم) أنتم الآمال والفرح

يا ليتني إذ نأت عني عزيمتكم

غدوت صخراً حوته القدس أو رفح

تمنى وهو البعيد عن عراك الحرية أن يتحول إلى صخر يقذف به وجه المستكبر المستعمر.. أمنيته سبق بها غيره من الشعراء تعبر عن وفاء.

معاً، وبكم نمر مرور الكرام على محطاته (أرجوزة الحجر) و(الفصيح الصامت) و(الغصن والفنوس) وجميعها تستحق التوقف لجودتها..

ويسترعي انتباهنا عرض شاعرنا على محبوبته أن تقبل..! تقبل ماذا؟

يداي قد مُدَّتا، مدي إلي يدا

فالصخر لان هنا، والجمر قد بَردَا

عهد النفار تولى، لم أعد كلفا

به.. ومخزون صدي اليوم قد نفدا

أنت الحبيبة قد أرخصت مرتضيا

من أجل عينيك حتى الأهل، والولدا

كثير هذا التنازل يا شاعرنا.. وسخي باهظ هذا الثمن الذي قدمته.. يلين صخرك! يبرد جمرك، مخزونك من الصد والنفور فارغ لا اختلاف عليه.. الخلاف أن يرقى الثمن إلى ربيع الأهل، والولد.. أمر غير مسموح به حتى في الشعر لأنه شعر اللامعقول.. أقول لعزيزي قل لهندك:

ليت هنداً أنجزتنا ما نفد

ووفت أنفسنا مما تجد

ولكن حذار أن يأخذك عجزك إلى الاستبداد حتى وإن أكده الشاعر: (إنما العاجز من لا يستبد)، قصيدتك رائعة رغم خيالها الضارب في متاهات العشق.. ورغم أن الضعف في الحب أمام الحبيب ضرب من التوسل الذي لا أميل إليه..

يا هند ها أنا قد مزقت أشرعتي

وجئتُ يا غادتي إلحسناء مرتعدا

هل تقبلين إيابي بعد طول نوى

أو ترفضين فأبقى أبرم العُقدا

أظنها سترفض ما دمتَ تستجدي.. المرأة تحب الرجل القوي حتى وهي تكرهه.. وتكره الرجل الضعيف حتى ولو تظاهرت له بالحب..

(آت) حلمُ مستقبل مجلل برداء بيضاوي شفاف..

أكاد أرى في الأفق نفح عبيره

يهدهد في آفاقنا الألق الخابي

ويحتاج بيت العنكبوت رياحه

فينصب هذا القفر من بعد إجداب

وينتشر النحل المُغيب يبتني

خلاياه يجني الشهد حتى من الصلب

إنه يحلم بنصر من الله لعباد الله في مواجهة مع أعداء الله وأعداء رسله:

إذا كان إرهاب العدو مسبة

فإني - ومرحى بالمسرة - إرهابي

وإن لم أكن يوماً لقومي وملتي

وفياً، فإن الموت في القفر أولى لي

هكذا وبهذه القوة الإيمانية يرفع عقيدته مستشهداً بقول الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.

الإرهاب هنا انتصار للحقيقة والحق.. ليس تهمة يُخشى منها ويخاف حتى ولو كانت من أعتى دول الدينا وأشرسها..

أخيراً.. مع شاعرنا الصادق بمشاعره.. الوفي لوطنه ولأمته الصديق أحمد البهكلي في مقطوعته الأخيرة من ديوانه (أول الغيث) (لا بد) أنها آخر غيث شعره.. المؤطر بالأمل:

لا بد من أن تطلع النجوم

لا بد من أن يزهر الهشيم

الهشيم يا شاعرنا تذروه الرياح لأنه نهاية ازهار لا بدايته.. في مقدورك مثلاً أن يكون (لا بد من أن يورق النعيم)

لا بد من أن ترقص الفيافي

من فرحة، وتنضج الكروم

يكاد عطر الفأل يحتويني

وقد تهادى لي به النسيم

إنك محظوظ يا صاحبي.. نوافذنا وأبوابنا مفتوحة لقدومك أيها الأمل، أنتَ لنا رمز حياة كريمة ننتصر فيها على أعدائنا المتربصين بنا.. المناوئين لطموحاتنا.. الطامعين في خيراتنا..

فالحق غالٍ صوته مقيم

والباطل الواهن لا يدوم

وأضيف من عندي:

فالحق عالٍ.. صوته عظيم

والباطل في كفاحنا مهزوم

شكراً لشاعرنا بهكلي أسعدني كثيراً كثيراً في شعره.. أما القليل القليل فإنه يحتاج إلى مراجعة متأنية كي يكتمل بها نصاب ديوانه:

وأجزم أنه بموهبته قادر أن يعيد إلينا كامل الأوصاف والإنصاف.

***

لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض : ص.ب 231185 الرمز : 11321 فاكس: 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة