Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
نصوص
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 
ميمونة المفتونة
عبد الواحد الأنصاري

 

 

قال: إنه أصبح مجنوناً، وأنه سيخاطر وسيثبت لي ذلك بانتقاله إلى الدور العلوي الشاغر من منزلنا حذار! فقد كنا نسكنه قبل أن تنعطب رجل أبي اليمنى، وفي ليلة ظهور نوء الهقعة خرجت علينا في الصالة عقرب سوداء بحجم كف أبي المبسوطة، أي بحجم الرغيف المتوسط، وذعرنا فأتى عمال البلدية ورشوا الدور العلوي فرحلت كل الهوام عبر المناور الأربعة إلى الدور السفلي، وظلت قاطنة هنا في شقتنا السفلى حتى جئناها ورحلناها بالمبيد مرة أخرى إلى أعلى. حذار! سيفهمها على أنها دعابة وأني أتدلل عليه، وميمونة في الحقيقة لا تتدلل ولا تعتقد أصلاً أن لها الحق في التدلل على أحد، ولكن ما يدريه؟ ذهبن جميعهن وبقي السرير يطقطق بعد أن كان صامتاً والهواء من تحت الباب يصفر، والقطرات الرتيبة في المغسلة تصيح بي: ميمونة، قلت لك يا ميمونة صبي الجاز على النار يا ميمونة. الحقيقة أني فرحة جداً، كما لم أفرح عندما تم تثبيت برج اتصالات الجوال بالقرب من المزرعة فصار لي في الإجازات جنتان، جنة المزرعة وجنته، دقة من جواله ثم دقتان ثم ثلاث رنات، أجيب عليها بثلاث رنات ثم دقتين ثم دقة واحدة، كل هذا بدافع الحذر ليس إلا ونبدأ المحادثة بعدها، قلت له لماذا هذا الترتيب بالضرورة؟ قال لأن آخر ما يذهب هو أول ما يجب أن يعود، والقلم المغطى آخر ما يخرج منه هو رأسه وأول ما يدخل منه رأسه أيضاً، كان يسترسل ويتجرأ في الغزل شيئاً فشيئاً وبالتدرج، يتحول إلى هاوي عبارات لها ألف مغزى، كما تبدأ فتيات مقاعد الكلية الخلفية بالنكات البسيطة والساذجة لنصل إلى النكات العميقة كأننا نهدف إلى إسالة ماء الوجه. قال: إنه سيقتحم سور المزرعة وخصره محوط بحزام مذهب مائل إلى الجنب، والجنب الأيسر تتدلى منه جنبية حضرمية لها مقبض فضي يحمل حلقتين فضيتين دقيقتين يتحدى بهما صانعه أقرانه، ومنقوش على طول المبرد كلمتان هما: لباس العافية. قلت له لا عافية لأي شخص يتزين بالخناجر، ويقتحم مزارع العوائل، فقال لي على مهلك يا ميمونة، هذا الجنب الأيسر فقط، أما العاتق الأيسر، فيتدلى منه محزم رصاص روسي أحمر مدبب يتقاطع مع الخنجر مائلاً على الصدر كإشارة المرور التي تقول ممنوع الوقوف، واستطرد يستعرض معرفته الدقيقة لمسميات الرصاص من فشق وطلقة وبارود وحبوب وسهام مريشة وبدون ريش ولطخات موضحاً الفوارق الخفية على معرفتي القاصرة بما يقول، قلت له وماذا ستفعل إذا دخلت المزرعة؟ فضحك وأجاب بأنه سيعلمني كيف أشعل النار وأمد الحطب بالعرض في وجه الريح كي أستفيد من الحطب أطول فترة ممكنة وكيلا ينطلق من النار صالي أو ساعر على وجهي (هكذا يسمي شرار النار)، قلت له وماذا ستعلمني أيضاً فبدأ يتجاسر ثم يخسر رزانته وذكاءه ويغازل، وهذا ما سيفعله لو حذرته من سكنى الشقة العلوية سأقطع عليه الطريق، وأقول هات شيئاً آخر تفعله غير التسلل من المنور على المواسير، وغير تسلق النافذة إن كنت شاطراً ولن يصرفه أي صارف عن أن يجد مخرجاً عابثاً، وسأحدثه عن هوام الدور العلوي ولن أسمح له بالسكنى قبل أن يقوم بكل الترتيبات اللازمة لسلامته ولكني سأعلق الحبل في رقبته وأحمله الذنب على عاتقه لو حصل شيء وسأحذره من رش المبيد لأن الحشرات ستنزل علينا كالمطر، وقد تصيب حية أو عقرب أحداً من أسرتي.

مشكلته أنه يفهم كل شيء على أنه تدلل وغنج. لكن حذار! فمشكلتي الملحة هي أني لست مستعدة لخسارته كالعديدين قبله، وليس أولهم سائق الباص الذي غير وظيفته واختفى بدون أي إشعار سابق، وليس آخرهم موظف البنك الذي قال لي: إنه انكشف وصار مراقباً وقال له حموه نحن اشتريناك وأنت بعتنا، وصاروا يحسبون بالدقائق انشغال هاتفه ويتوقعون السوء، قال لي: إنه ليس مستقبلي، وأنه سيجمع بقاياه ويذهب إلى رحلة صيد لي غرب افريقيا عبر منفذ ظبا إلى الغردقة وبراً إلى الجنوب وليس انتهاء بالعبور من حدود مصر إلى صحراء شمال السودان، وأكد أنه سيواصل رحلته ريثما ينسى، وشهراً بعد شهر ثم فقدت صوابي مرة وكلمته فقال: إنه يحس في صوتي بنغمة الهزيمة وبأثر رجل جاء بعده وأنه غير غاضب لأنه بدأ يتماثل للشفاء! نفيت وأنكرت لكنني لم أفلح في استعادته لأنني فشلت في إخفاء الأثر الذي اصطاده للرجل الذي جاء بعده. حذار! فلن أعارض جنون هذا الأخير، هذا إن صحت تسميته بالأخير، ولا لن أقف في وجه مزاحه، ولن أحتج على مخاطرته بالتسكع في الدور العلوي القديم الذي تمتلىء زواياه بالشقوق وتخرج منه الهوام الزاحفة وذوات الأرجل كلما ضايقها الحر الذي يأتي به دخول نوء سعد الذابح في أواسط الربيع. ألم يقل لي: إنه يوشك أن يكون مجنوناً وأنه يكاد يخاطر بنفسه، وسيثبت لي أنه لا يمزج بانتقاله إلى الشقة العلوية الشاغرة للايجار من منزلنا، والحقيقة أني لست مرتاحة إلى المسألة برمتها لأن للتمادي آفاته، ولكن الحذر واجب، والسرير يطقطق والهواء من تحت الباب يصفر وهذه قطرات المغسلة الرتيبة في سكون الليل الأجوف تهمس: تدرين يا ميمونة، اتركي عنك الدلع والتغلي.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة