Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
قراءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

البحريات.. الآخر وتحولات المكان...؟ 2-3
محمد الدبيسي

 

 

** بهكذا (موقف) ونظائر أخرى مشابهة له.. يحصد المكان فؤاد (بهيجة) ويعتصره.. ليعيد زرع لوعة الغربة والفقد والشعور الممض بالنفي..!

حتى في الحالات الحميمة كان قدر (بهيجة).. أن تتقاسم (صالح) مع ضرتها (موضي)... عبر عدة مواقف تقتضيها طبيعة الحياة.. حيث تشهر (بهيجة) في أجوائها ضوعها الإنساني الفواح وهسيس الليالي الدافئة، التي لا تراها (أم صالح) وتكاد مستويات السرد سواء منها الحركي المباشر.. أو الاسترجاعي؛ يسترد فيض ذاكرة (بهيجة) للتحلل من وطأة إلحاحات المكان ووحشته القاسية، واستحقاقات أنظمته الاجتماعية.. التي تراوح الساردة فيها بين الحوار والسرد الذكروي.. وطبيعته الاسترجاعية - عندما تمتاح مادتها الموضوعية من حالة (بهيجة) في استرداد حمولات ماضيها - وبين الوصف الحركي وتنوعه المشهدي.. الذي لم يُختزل أو يتنمط في الأفق الاستذكاري.. بل يناور وبمقدرة فنية على الإمساك بالخيط السردي الجمالي.. وتوالي انتظاماته وتشكيل سياقه الدلالي وفقا لوحدات سردية.. تستوعب إيقاع الزمن والمكان.. على نحو تجلت فيه (المراوحة) بين المكان وتحولاته التاريخية.. التي تقتضي تحديد المناخات والفصول الموسمية.. كمحاور تستدعي بدورها أحداثاً ومواقف وتطورات تتوالى بانتظام.. وتعكس المستوى المفاهيمي للشخصيات.. الذي يحدد الخط السردي لمسار الحدث المركزي.. وهي الإستراتيجية التي يسميها الناقد (صلاح فضل) (الوظيفة الدلالية).. (عندما يعمد التركيب إلى إبراز معنى لا يستخلص من الوحدات في حد ذاتها، وذلك عن طريق التوازي أو التناوب بين وحدات سردية ذات مضمون مختلف, تخلق فكرة تابعة من هذا الاقتران. وذلك في حالات التورية والمجاز والرمز وغير ذلك من العلاقات تركيبية) - (د.صلاح فضل, أساليب السرد في الرواية العربية. ط1؛ 1992م صـ 212) -

** وهو الصنيع الذي يمكن أن نزعم أن الكاتبة قد حققته بشكل ما.. (فآل معبل) (أم صالح وصالح وسعد موضي/ + بهيجة) يشكلون تلك الوحدات, في مركزية دلالتها وامتلاكها أجزاء من كمية السرد وتجسيدها لمقتضياته الدلالية، كما أن العلاقة التي تربطهم لا يمكن رصد حساسيتها ومأزقها الاشكالي؛ إلا في حالة التوازي والتناوب بين الحقول الدلالية, التي ترسم الكاتبة لكل منها أفقاً سردياً تتشكل وظيفته التعبيرية.. عبر اللغة السردية المحققة لمعادلاتها الفنية وخيالها الجمالي (الصفحات 33 - إلى60).. واستدرارها العميق لفيض الذاكرة.. وتوالي الأحداث وتأزمها.. بشكل ينزع إلى خلخلة نظم المكان وغطيته.. والانحراف بها إلى الرؤية المعالجة التي تبتدعها الساردة في هذا الفضاء المكاني, وفقاً لمحددات تلك الرؤية, والانحراف بحسب (ريفاتير ولوتمان) نموذج بارز في استراتيجيات النص الأدبي وشرط أساس لشاعرية الأسلوب. ولذلك جاء الأسلوب بذلك المستوى من الانتقاء المعياري لألفاظ وتراكيب لغوية مشحونة بطاقات إيحائية، ودقة توظيف للمجاز في السياقات السردية واستثمار دلالاته الرمزية، في تكوين الأحداث، واستجلاء مكنون وجدان الشخصيات والتعبير عنه، مثلما كان الانحراف مقنناً بمقتضيات وحدات النص وحقوله الدلالية.

المكان / الآخر:

بحكم الفترة التاريخية التي تحاول الكاتبة رصد طبيعتها ومظاهر حراكها وتجلياتها الاجتماعية, في إطار الرؤية التي اعتمدتها في عملها السردي.. حيث اقتضتها التحولات التي مر بها المكان، وإشكالية علاقته مع (الآخر)..!

وذلك عبر خيط (بهيجة) التي تقودها طبيعة ظروف التنمية التي تعتور المكان إلى لقاء (انغريد) الألمانية التي ترافق زوجها - (المهندس) في مشروع وادي حنيفة, - والتي تتمثل لبهيجة وجاءً يخفف حالة مكابدتها المريرة مع (مكان) لا تستطيع التآلف معه..؟

** وتستثمر الكاتبة هذا التلاقي في تثوير فكرة (الآخر).. والتنويع في طرح نماذجها.. وانعكاسها على نظام (المكان المغلق).. فكيف يمكن لهذا المكان احتواء أبرز نماذج (الآخر) غربة ونائياً عن نواميس المكان..؟ وليثمر هذا التلاقي كذلك جدلية أيديولوجية.. (المكان/ بهيجة + انغريد) حيث تعرض الكاتبة لأثرها الاشكالي وترصد انعكاسها على الشخصيات وطبيعة استجابتها لها.

فيما (أم صالح).. تناوئ - تلك العلاقة الإنسانية بين (الغريبتين/ بهيجة وانغريد) - الحذر المشوب بالشك أحياناً.. أو العداء السافر (بهيجة: كافرة شامية ابليس) و(انغريد: كافرة تأكل الخنزير) واتفاقهما ووئامهما ربما يقوِّض سلطة (أم صالح) بحسب تصورها.. ومن هنا كان نبذهما والدأب على إقصائهما واجباً دينياً؛ واستجابة لمقررات نفسية واعتقادية وبمبررات لا يمكن تفنيدها؛.. إنهما كافرات..؟.

غير أن المواقف والحوارات التي شكلت مساحة التقاء بين (بهيجة وانغريد) على الخارطة السردية تنم عن مستوى من التعايش الإنساني البسيط والحميم في آن.. والذي يعول على أدق المشاعر الإنسانية نبلا.. وعلى صفاء البداهة البشرية بين الغرباء وبروز المشترك الأقوى بينهم (الغربة) في المكان الطارد لهما.. والذي لا يمكنه استيعابهما.. كما لايمكنهما التآلف معه.!

** أما (مريما) المحضية الحبشية ل(أبي صالح).. فقد نكأت صورة المسيح في منزل (انغريد) كل حمم وجدانها العقدي.. وولائها الديني.. الذي ظل محكوماً بالصمت والخفاء ومحفوفاً بالرهبة.. في منزل (آل معبل) لتنزف عبر ذلك المشهد الدرامي الشفيف.. كل ما استودعته من أحاسيس ظلت محبوسة في روحها سنين.. وكل ما تراكم فيها من لوعة وحنين. في لحظة لا يمكن تجاوزها أو كتمان آثار سعيرها.. عبر ذلك المشهد الذي مثّل الصدمة ل(مريما) وأيقظ جذوة انتمائها الديني.

ولعل الكاتبة اختصرت في ذلك المشهد.. المساحة الفكرية الواسعة لموقع (الآخر) في (ضمير المكان) الذي هو بالضرورة الضمير المحلي.. ومقدار معاناة (الآخر) البالغة، بالإحساس بوطأة النفي والاغتراب..؟

(اغتراب) يضع شخصيات المكان (أم صالح وصالح وموضي ومحمد وسعد) إزاء الآخر (بهيجة ومريما ورحاب وسعاد وانغريد) بما يمكن وسمة بجدلية التعايش المفترض.. في نطاق المكان.. - ويستدعي بعد ذلك نموذجا تقدمياً مغايراً (شكلياً) للمجتمع المحلي عبر (متعب) وستأتي له هذه القراءة لاحقاً..؟

** وتبدأ أول علامات تحول المكان من (ريف) بدوي قبلي.. إلى (مدينة) تحاول وتيرة الحياة فيها وإيقاعها الجديد؛ التساوق مع صيغ التحضر المظهري.. (فحيث انتقل آل معبل إلى الملز في أوائل السبعينات) صـ 79 لتلتئم العائلة في فيلا كبيرة تلم أفرادها.. بذات المحددات الفكرية البدائية التي غرستها شمس الصحراء الحارقة في دواخلهم.

.. انتقال صوري.. مفرغ من قيم حضرية جديدة واشتراطات الحياة المدنية.. لتبدأ الساردة في حياكة فصول أخرى.. تقارب بها تلك المحددات الفكرية كبنية فوقية تحكم السلوك..؟

فالمقاطع التي يتشكل منها السرد في هذا الفصل.. تلون الحكاية بظلال المكان الجديد.. في إشارات عدة إلى تغيير النمط المعيش.. الذي انصاع آلياً للحركة المدنية.. ومظاهر طقسها الاستهلاكي.. الفاقد لشروط تؤهله لتلك المدنية..؟ والمنقطع فكرياً عن اشتراطاتها..؟

لأنه فهو مفرغ من الوعي القيمي الإنساني ب (الآخر).. قَلِقٌ إزاءه.. يناوئه القطيعة استباقاً.. كما في فصل (رحاب) الفلسطينية المقيمة بلبنان.. التي اقتضت طفرة التنمية المحلية اجتلابها إلى الرياض (بفيزة معلمة) لتشكل طوراً آخرَ من أطوار بنية السرد, المعنية باستجلاء وتعرية نظم (المكان).. والموقف من (الآخر).. ولا تُفوّت الساردة موضوعا كهذا.. دون أن تستدعي قضية (التعليم) كمكون مفصلي من مكونات (العقلية المحلية) وبنائها القيمي والفكراني.. (طالبات يكتشفهن مغارة العلم بالصمت، ويعانين تباريح الخجل والقلق، وإحساساً قارصا بالخطيئة، فالعالم من حولهن لم يحسم أمره بخصوصهن بعد.. هل هن خاطئات مبتدعات لبدعة سيحملن وزرها إلى يوم القيامة.. أم هن صغيرات أم أمهات المؤمنين)ص114

ويروم هذا المقطع عبر أسلوبه الجمالي ومجازه المكثف؛ تأمل فلسفة التعليم الغائبة والمموهة, والتعبير عن الموقف منه؛ كما هو في أذهان المعنيات به والمسيرين له على حد سواء.. وفي سياق وضعية اجتماعية, تعاني قلق الموقف وقلق الاختيار.. تجاه (قضية التعليم).. كمسبار يخترق البنية الاجتماعية.. ويتجه بها نحو معنى من معاني التحول, تجاه التحضر وحياة المدينة..؟

** ويبرز (فصل: رحاب) كما لو كان تحققاً جلياً جديداً لدلالة (الآخر).. ومساره القدري في إطار (مكان) يجمعها (بعمر الحضرمي) لتنسج الكاتبة عبرهما فصلاً من فصول العلاقات الإنسانية الخفية والتهابات العاطفة الفوارة في وجدان (رحاب وعمر) الذي يرزح تحت سطوة المكان, المحصور في دائرة سرية.. وفي تباريح النبض الإنساني الحميم؛ الذي يتلظى في فؤاد (عمر الحضرمي) منذ شاهد (رحاب).. وعبر بها مسافات الطريق الذي يقطعه برفقتها من منزلها في شارع الخزان.. إلى قصر (آل معبل).. في الفصل ذاته (فصل رحاب) الذي يجرحه ويكسر إيقاعه؛ النتوء السياقي الذي زرعته الكاتبة في سطر: (كيف وصلت رحاب لبيت آل معبل..؟) صـ119 حيث كان السياق متدفقا وسيالا بانتظام, للتعبير عن هذا الموقف.. دونما حاجة لتعتسف هذا السؤال المفترض- بزعم الكاتبة- من لدن القارئ..؟.. الخادش للتسلسل العفوي للسرد.. والذي يفترض غياب ذهنية التلقي عن استيعاب خطوط الحكاية السردية وتقاطعاتها وتناميها.. كما يتطامن مع (أفق انتظار القارئ).. عندما ينحو منحىً إقرارياً في محاولة توقع سؤاله.. بل وإقحام الصيغة المفترضة للسؤال في النص: (كيف وصلت رحاب لبيت آل معبل..؟)؟

** وقد شكلت (رحاب) مستوىً موازياً نوعياً لحضور (بهيجة) في البنية السردية.. واستحوذت على منسوب كمي طويل من النص، في مقاطع متواصلة.. استظهرت الكاتبة من خلالها المخزون النفسي لهذه (البحرية) الجديدة.. عندما ألحت على اجتراح وجدانها الغاص بجروح علاقة عاطفية (بعلي).. ليقذف بها القدر في (الرياض) حيث تناوئ انفتاح العقل وجروح الروح.. بمكان تمعن نظمه وتقاليده في شرخ كيانها المصطخب بكيمياء الحياة..؟

وعبر (رحاب) كان ثمة استكمال لمسار حياة (البحريات) في مكانهن الجديد الطارد.. وفي محاولاتهن الدؤوبة للالتفاف على مواصفاته؛ بثقافة مغايرة وبهسيس مشاعر.. تستعصي على الانصياع للصمت، الذي يكاد يشكل حاجزاً أمام كل إرادات البوح والحياة.. في المكان الجديد..؟

** وفي من خلال هذا الفصل وما تلاه.. تتجلى جزئيات وصفية وحوارية يسندها تعدد الاصوات لتراكم الفكرة الاساس، التي تنحو بها الكاتبة باطراد لتجسيد حمولات المكان وديناميكية حركته، في أتون تحول يشمل مسافات الحياة التي شكلت سنوات الطفرة معطن توتراتها ,وبداية اشتجارها مع نماذج إنسانية للآخر..؟ عبر وحدات سردية تستثمر تحولات المكان الدائمة إلى المظاهر الشكلية في الاستهلاك والضرورات الحياتية والترفيه أحياناً, التي كثيرا ما تلح الساردة على الإيماء إليها, وإبانة المفارقة المريعة بين فكر التحديث والتمدن, ومظاهره السطحية.. التي تمس الشعور الإنساني المستكن للشخصيات؛ ففصول (رحاب, والقبلة, وصبايا بلا صبا) استطاعت وبفعالية توطين (رحاب) في لحمة (البحريات) لتقاسمهن لوعاته ومزاجه الطارد، وليأتي على ما تبقى لها من شعور بالطمأنينة في ظل وقدة غربة.. وتشظيات رغبة في تحقيق شيء من الانتصار يضمد جروحها.. وهي تحاول تجاهل إشارات الرغبة والإعجاب من (عمر الحضرمي) - المتحد معها في الشعور بغربة المكان - فيما تحقق لها تلك الإشارات.. بعض الرضى الأنثوي الغريزي.. لكيان (أنثى).. تعتريها أوجاع الغربة والشتات وجروح قديمة لم تندمل.

** كما تستوعب الفصول وباطراد أحداثها؛ فترة من فترات التكوين السيادي والإداري للدولة.. ومظاهر تقليدية لمجتمع يتخفف للتو من تبعات بداياته الريفية ومزاجه القبلي ونظم تفكيره الثاوية في قرار الصحراء.. فيما لا يكف خط السرد الذي أتاح له (ضمير الغائب).. فرصة التوسع والاستطراد والبوح.. واستظهار الرصيد النفسي للشخصيات، للتعبير عن مضمرات تستكن في أعماقها, وفقاً لما تكشفه طرق التعامل، والسيرورة الطبيعية لحراك الحياة ويومياتها.. وما تشي به من تفسير لمكوناتها الفكرية وانتمائها الجهوي في السياقات النصية، التي كان عليها مراعاة حساسية منح كل بنية سردية مما سبق، نطاقاً نصياً محدداً يجسد أجواءها وينهض بدلالاتها.

***

لإبداء الرأي حول هذه القراءة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5215» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة