Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
فضاءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 

الآخر في الشعر السعودي: «*»
التفاعل والتمثيل (1 - 5)
سعد البازعي

 

 

التفاعل مع الثقافات الأخرى شرط أساسي وبالغ الحيوية لتطور أي ثقافة، لأن من غير المتصور أن تنهض حركة ثقافية في أي مكان دون عناصر تأتي من خارج تلك الحركة وإن بدا للبعض أن هذا كلام يدخل في عداد البدهيات، فإنه يغدو ضرورياً لسببين: الأول لأن الثقافة العربية تمر اليوم بمرحلة تكاد فيها أن تعيد النظر حتى في مثل هذه البدهيات على النحو الذي يدعو إلى ما يشبه الخنق الثقافي من خلال تشدد ديني معتم يشكك في الثقافات الأخرى ويتحدث عن غزو ثقافي لا ينتهي ومؤامرات لابتلاع الثقافة العربية أو تشويهها.

أما السبب الثاني فهو للدخول فيما يؤكد عكس ما يراه الداعون إلى ذلك الموقف المتشدد إزاء التفاعل الثقافي، للوقوف على نماذج من التحولات الثقافية التي لم تكن لتحدث لولا قدر من الانفتاح الثقافي يستدعيه الوجود الإنساني المشترك وضرورة السعي وراء ما هو مميز ومثرٍ في العطاءات الثقافية المختلفة. على أن من الضرورية اتباع ذلك بالقول إن حضور الثقافات الأخرى، أو ما أشير إليه هنا تحت مفهومي (التفاعل والتمثيل) لا يحدث دائماً من خلال رغبة في التفاعل ناتجة عن حالة انسجام أو إعجاب بما لدى ذلك الآخر، أو ما لدى الثقافة الأخرى، مما ينبغي أخذه والإفادة منه على نحو ما قد يكون التفاعل ناشئاً عن توتر أو صراع ويعبر عن موقف رفض أو احتجاج، مثلما أنه يعبر أحياناً عن موقف تلاحم وانبهار لكنه في كل الحالات أمر لا مناص منه بمعنى أنه حتى من يرفضون حضور الآخر أو يتحسسون منه على نحو مفرط مضطرون إلى مواجهته والاعتراف بحضوره، الأمر الذي يعني ليس هل يحضر الآخر وإنما كيف يحضر، ليس هل يتمثل وإنما كيف يتمثل.

في تاريخ الثقافة العربية ومنها الأدب والشعر تحديداً يمكن الحديث طويلاً عن كيفية حضور الآخر منذ التفاعلات الأولى بين القبائل العربية والأمم المجاورة وتطور ذلك إلى الامتزاج الهائل والعميق في فترات الازدهار الحضاري التي تلت وما تنامي نتيجة ذلك من تصورات للشعوب الأخرى تأثرت بعوامل سياسية وأيديولوجية وأخرى مختلفة وحين جاء العصر الحديث لم يكن بدعاً في ذلك بل أن النهضة العربية كما نعرفها جاءت مزيجاً من أنماط التفاعل والتصورات لأوروبا والشرق، للأمم والثقافات المختلفة وعلاقتها بالعرب أو المسلمين بقدر ما جاءت مستمدة من عمق التراث وسمات الاختلاف الثقافي.

الشعر الحديث في منطقة الجزيرة العربية، ومنه الشعر في السعودية، لم يخرج عن السمات العامة التي نجدها في مجمل الشعر العربي الحديث من جهة التفاعل مع الثقافات الأخرى وتوليد التصورات إزاءها، أو تمثيلها كان ذلك منذ بدايات النهضة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر حين امتدت إلى الحجاز ونجد وضفاف الخليج العربي وغيرها من جهات الجزيرة فقد تفاعل كتّاب المنطقة وشعراؤها مع ما يفد إليهم من الأقطار العربية مثلما انتجوا تصوراتهم وأنماط تفاعلهم مع الثقافات الأخرى من خلال الاحتكاك المباشر وكان من العوامل التي أضفت أثراً قوياً على تلك العملية في حالتي الحجاز والخليج كثافة التداخل بين سكان تلك المناطق والوافدين إما للحج وزيارة البقاع المقدسة في حالة الحجاز أو التجارة في حالتي المنطقتين معاً بيد أن التطور الذي تلاحقت مراحله سرع من وتيرة التفاعل وكثفها من ناحية وأدى من ناحية أخرى إلى توسيع الدائرة لتشمل مناطق أكثر عزلة مثل منطقة نجد في الوسط التي تحولت لتصير مقراً لكبرى مدن الجزيرة العربية في الوقت الحاضر الرياض.

ما أصاب الأدب العربي في السعودية من تطور كان إلى حد بعيد نتيجة طبيعية لذلك التفاعل، بدءاً من وفود أنماط أدبية جديدة مثل القصة القصية والرواية في أوائل القرن العشرين وامتداداً إلى مجيء شعر التفعيلة ثم قصيدة النثر في العقود الأخيرة من ذلك القرن.

ولعل مما لا يستغرب أن يكون تغير الشعر أكثر حساسية من تغير غيره من حيث هو الشكل الأدبي الرئيس في الموروث العربي عموماً وفي الجزيرة بشكل خاص نتيجة لهيمنة الشفاهية ردحاً طويلاً من الزمن واكتساب الأشكال الموروثة مرتبة تقترب من القداسة التي لا تسمح بالمساس به. ومن هنا كانت ردة الفعل الحادة منذ خمسينيات القرن الماضي، وبشكل خاص في السبعينيات منه تجاه محاولات التغيير في شكل الشعر ولغته وموضوعاته. ولم يكن غريباً أيضاً أن تكون ردة الفعل تجاه استحداث التغيير في الشعر هي نفسها ردة فعل تجاه الآخر وحضوره فتتهم حركات التغيير بما اتهمت به مثيلاتها في أجزاء أخرى من الوطن العربي، مثل العراق ومصر وبلاد الشام، بأنها ليست سوى حركات تغريب هدفها تخريب الثقافة العربية الإسلامية بهدم أعز أشكال التعبير لديها.

ردة الفعل تلك لم توقف حركة التفاعل مع الآخر، التي عرفت بحركة الحداثة، ولكنها تركت، كما لابد لها أن تفعل أثرها الحتمي بوصفها جزءاً من حركة التغير نفسها بما تقوم عليه من تفاعل جدلي بين قوى متعارضة من ذلك الأثر في المشهد الشعري والثقافي عموماً في السعودية ما يبدو من فترات انقطاع بين فترات التحديث من ناحية وما يعتري تلك الفترات من سمات مختلفة قليلاً أو كثيراً فلم تكن حركة التحديث بما تتضمنه من تفاعل مع الثقافات الأخرى، حركة متصلة متنامية كما أنها لم تحمل السمات نفسها.. يتضح ذلك في فترتين من فترات التحديث والتفاعل المشار إليها فترة الخمسينيات وفترة السبعينيات.

ومع أن هاتين الفترتين ليستا منفصلتين تماماً فإن ثمة سمات يمكن تبينها تجعل من الممكن النظر إلى كل بوصفها مختلفة عن الأخرى.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244

albazei53@yahoo.com * (ألقيت في الملتقى الدولي للشعر في القاهرة - فبراير 2007)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة