Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
فضاءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 

كلمات كلمات كلمات
قاسم حول

 

 

هذه الكلمات المكررة ثلاثا هي لشكسبير على لسان هاملت يوم أن تآمر عمه على أبيه ملك الدانمارك وتخلص منه وتسلم المنصب الملكي وتزوج من أمه وصار يستمع للتبريرات والمنطق والتآمر والأشباح فضاع وسط عالم من الكلمات حيث قالها بمرارة وهو لم يعد يثق بشيء بعد أن فقدت الكلمات معانيها وصارت تطلق دونما مسؤولية فقال مقولته بمرارة (كلمات كلمات كلمات)، لقد غاص هاملت في بحر من الكلمات وغرق فيها دون أن ينقذه أحد وبقي تتلاطم في حياته أمواج الكلمات ولا يستطيع الخروج منها إلى عالم الصفاء.

العالم كله يتحدث الآن ودون مسؤولية للكلمات خطب سياسية وتصريحات ومؤتمرات ومواقف تروح وتتغير، أكداس من الورق مطبوع عليها ملايين الكلمات كل يوم وأجهزة بث صوتية ومرئية تنطلق منها ملايين الكلمات وأغان تملأ المسارح وبلاتوهات التلفزة وتنطلق منها ملايين الكلمات كل يوم بل كل ساعة وكل ثانية. مقدمات برامج لا يفقهن ما ينطقن به من كلمات مكتوبة على لوحة الكاميرا ما يريد كاتب البرنامج أن تنطق به المذيعة (سباح الخير سيتاتي ساتتي) كلمات كلمات كلمات ولا شيء غير الكلمات.

عندما كنا ندرس المسرح والسينما قال لنا أساتذة كبار كمال نادر، علي الزبيدي، إبراهيم جلال، جاسم العبودي، جعفر السعدي، بدري حسون فريد، سعدون العبيدي، جعفر علي، الحاج ناجي الراوي، إبراهيم الخطيب، أسعد عبدالرزاق، قالوا لنا كلمات مختلفة، كلمات محسوبة وموزونة ومسؤولة وبالفصحى وسبروا أغوار الكتب في التأريخ، دراسة وقراءة مبرمجة وعملنا بها حبا وعشقا. فإنشأنا الفرق المسرحية وقمنا بتأسيس مؤسسات للإنتاج السينمائي وأصدرنا مجلات وأشرفنا على صفحات ثقافية وقلنا كلمات مختلفة أساسها معرفية أكاديمية ووفية ونادرة.

قال لنا كمال نادر أستاذ تاريخ المسرح: لقد حفظ الإغريق تاريخهم فاحفظوا أنتم تاريخكم واعملوا على تأسيس الذاكرة.

سرعان ما تلاشى الحلم وقبل أن نبدأ بالتأسيس فوجئنا بنظام قاس لا يعرف الرحمة وكان علينا أن نهجر هجرة السنونوات ولكنها هجرة معاكسة، فالسنونوات تهجر من المناطق الباردة نحو المناطق المشمسة والدافئة فيما هجرنا نحن من بلاد الشمس والماء نحو بلاد الثلج والبرودة.

خلال فترة الحكم الدكتاتوري عمدت مؤسسات الثقافة التابعة لذلك النظام على غزو مقرات شركات السينما الخاصة والاستوديوهات وفتحوا أبوابها واستولوا على أصول الأفلام الروائية. وكانت أغلب تلك الأفلام يتم تحميضها وإنجاز العمليات الفنية اللاحقة فيها في استوديو صغير يقع بين مركز بغداد العاصمة وبغداد الجديدة وهو استوديو هاماز، فنان أرميني كان يعمل حارسا في استوديو بغداد وبعد أن تم غلق استوديو بغداد اشترى بضعة معدات وأنشأ ذلك الاستوديو الصغير وطوره ابن أخيه الموهوب (شيراك خوجه يان) وأصبح أهم استوديو سينمائي.

توفي الرجل هاماز وهاجر شيراك إلى أمريكا تحت وطأة الإرهاب السياسي، ولم يبق سوى حارس فقير يقيم في الاستوديو حتى طرق بابه ذات يوم ودخل بعض منتسبي مؤسسة السينما العراقية الحكومية بملابسهم الزيتونية وأخذوا كل أصول أفلامنا المهمة لتصبح ملكا لهم ملكا تم الاستيلاء عليه دون قانون سوى قانون الغاب. لم يقولوا عن عملية السطو تلك سوى كلمات كلمات كلمات.

عندما سقط النظام البائس وهرب رئيسه المبجل واختفى عن الأنظار جاءت الإيعازات للمؤسسة الحزبية لكي تحرق كل أثر وتم حرق المؤسسات والوزارات وتم حرق الأفلام التي تمثل جانبا من تاريخ العراق الثقافي. لقد حرقت جهودنا وإنجازاتنا الإنسانية حرقت عشرات الأفلام الروائية العراقية وحرقت أصولها السالبة وصوتها. لقد أحرقوا عشرات من الممثلين الذين كانوا يمشون داخل تلك الأشرطة السينمائية ويضحكون ويبثون البهجة في النفوس.

ولم نسمع من المجتمع الدولي سوى كلمات كلمات كلمات.

فكرت أن أعمل شيئا.. شاهدت في استوديو كبير في هولندا قسما واسعا تعمل فيه مجموعة من الصبايا وهن يرممن أفلاما قديمة عليها بضعة خدوش تمثل تاريخ أوروبا الوثائقي وقد جمعت لترميمها لأنها تاريخ مهم يتعلق بتأسيس الذاكرة لهذه البقعة من العالم.

وتذكرت أن بضعة أفلام موجبة من الأفلام العراقية موجودة في بعض مؤسسات السينما العربية والعالمية كانوا يحتفظون بها للمهرجانات السينمائية ثم

كتبت رسالة لوزارة ثقافة بلدي رجوتهم فيها أن يعالجوا ما حصل من حرق لتاريخ العراق الثقافي السينمائي ولم أحصد سوى كلمات كلمات كلمات.. كان هدفي أن يصار إلى تشكيل لجنة من الفنانين العراقيين خارج العراق يحاولون استعارة نسخ الأفلام الموجبة وعمل سالب وسطي منها والاحتفاظ بها في مقر يخصص لهذا الغرض من أجل أن نستعيد بعضا من التاريخ المحروق.

كررت المحاولة، ولم تصلني سوى كلمات كلمات كلمات.

مضت ثلاث سنوات على حادثة حرق الأفلام العراقية.

ثلاث حكومات تعاقبت على العراق خلال السنوات الثلاث.

اتصلنا بمنظمة اليونسكو.

ولم نسمع سوى كلمات كلمات كلمات

الناس مشغولة بالمفخخات في وطني.

والمثقفون يرحلون.

ولم يعد أحد يثق بشيء.

فهاملت قد اغتالوا أباه الملك وتزوج عمه من أمه

وبقي وحيدا يستمع لما يقال.

ولم يعد يثق بشيء.

وها نحن كما هاملت، لم نعد نثق بشيء مما يقال وكل ما يقال ليس سوى كلمات كلمات كلمات.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة