Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
نصوص
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 
قصة قصيرة
طفل الغد المبتور
حصة سعد محمد أبو حيمد

 

 

يلقي العجوز بجسده تحت ظل شجرة الزيتون الوارفة بعد أن نثر جهده على مواضع متعددة من حقله.. يتمطى تحت ظلها البارد مفترشاً عشبها الداكن وقد جعل من لفافة وسطه مسنداً لرأسه.. يرقب أحفاده الأيتام وهم يتناثرون على أرض الحقل ويجوبونه بأقدامهم الصغيرة لعباً ولهواً, يشير لهم بيده.. يتبادلون النظرات ويتجهون إليه راكضين تسبقهم صيحاتهم.

- جدي. جدي انتهى من عمله.. جاء وقت الحكاية.

يعتدل من انسداحته ويمد قدميه ويسند بظهره على جذع الشجرة استعداداً لقدومهم.. لحظات وإذا هم يحلقون بأجسادهم الصغيرة حوله.. قال شادي:

- جدي.. احكِ لنا كيف قتل الأشرار أبي وأخي..

نظر له الجد بابتسامة حائرة.. فكثيراً ما ألح بهذا الطلب وكثيراً ما سمعها!!

مضى الجد يسرد القصة رغم اعتراض البقية لتكرار سماعها.

- أبوكم رجل شجاع لا يهاب الأشرار، كانت له مواقف وطنية مشرفة هو وجماعته لكن الأوغاد غدروا به..

طفل التاسعة يراقب بقسمات مستغرقة الجد وهو يسرد.. يقاطعه متسائلاً بغيظ:

- ألم يكن معه سلاح ليقاتلهم به يا جدي؟!

يتنهد العجوز.. كيف وهم يخافوننا يا بني؟!!

يتحسس بيده الأرض المعشبة من حوله.. يحمل بين يديه حجرا صغيرا وبحماسة الطفولة يقول: لا تحزن يا جدي سنجعل من حجر بستاننا سلاحاً نقذف به زحفهم.

يبتسم الجد بفخر.. صوت الأذان ينطلق من مسجد صغير بجانب الحقل.. يتتابع الصغار خلف جدهم إلى المسجد.. يصطفون لأداء الصلاة.. يتسلل شادي إلى جده وبصوت خافت يقول: جدي أدعُ الله أن يقتل الأشرار كما قتلوا أبي.

بعد أداء الصلاة ينسل من المسجد على غفلة منهم.. يتجه إلى الحقل.. ينقب بنظراته عن شيء يكنزه عقله الباطن.. يتذكر الكرمة.. كرمة العنب..

- جدي يضع أكياسه هناك..

يتناول كيساً.. ينفضه من غباره..

- سأملؤه بسلاحي الحجري عند تطاير ذرات غباره..

كلمات نارية لفظتها ضغائنه الطفولية.

يهرول قاصداً السور وكيسه يلتصق بجسده الأمامي.. يخرج إلى الطرقات يمد يده إلى كل قاذفة ويلقي بها في كيسه.. الطرقات تقفر من الحياة.. الأبنية المتهتكة تنثر رمادها على الأرصفة.. وجه قديم انتعله زمن الدمار يطل من أحد الشرفات.. طفل يئن التقمت الشظايا قدميه يشحذ الدنيا برهة أمان.. كلاب الساحة المسعورة تطلق أصناف النباح.. الظهيرة الحارقة تلهب جسد شادي لكن لهيب الغيظ أشد.. يجول بخاطره قول أستاذه.. الوطن الحرية.. الوطن الحرية..

يثقل الكيس بقاذفاته.. عزم الانتقام يخف الحمل.. يعزم العودة إلى المنزل الصغير.. عرقه يترجم معاناة الطريق.. يمسح عرقه بأسفل قميصه البالي.. يتسلل خفية إلى الداخل.. يخاف تأنيب أمه الثكلى.. يدلف حجرة البيت.. لم يبق من السقوف الآمنة سواها.. يطمئن على عبوته من شباكها المهترئ.. ينثال بجسده الصغير على مقعد اسفنجي شهد الدهر له بالعطاء.. يعيد بذاكرته الطفولية ما قاله الجد.

يهمس في وسنه:

- سأقتلع رؤوسهم.. سأقتلع رؤوسهم.

يغط في سبات بعد يوم مضن.. الغائب يجسده حلم الصغير.. الغائب يهديه قاذفة من حديد.. يصرخ في أذنه.. اقتلوا المارد وأعوانه..

ينهض في أحلامه.. يجوب الطرقات حاملاً هديته.. يتلفت خلفه برعب.. يخاف ترقب الكلاب المسعورة.. يبحث عن صيده بين سقاء الأرض الأحمر وصوت الوطنية المشنوق.. يلمح نهاية الطريق.. جمع من أترابه يطوقهم المسلحون.. هناك وجه يعرفه:

- إلى أين يا صديقي؟

الصوت المرعوب يجيب: إلى المارد!! ما خطبكم؟!

- قطفت تفاحة من حقلنا دون أذنه!!

صوت آخر يقول: طربت لأغنية وطنية..!!

تتداخل الأصوات.. تعلو إلى السماء.. الليل البهيم يعجز عن إيقاظ الرقود.. يغيب الزحف وعيونه ترقبه.. يلاحقهم بنبرات واثقة:

- لا تخافوا سلاحي سينتقم لكم..

الغدر يسرقه سلاحه.. صرخاته تهيم بلا صدى.. تترنح على الأرض.. تئن لها الذرات.. يعود لاهثاً يتقيأ الحسرات.

- الأوغاد سرقوه.. الأوغاد سرقوه قبل أن أقتل المارد.. نبرات صوته تخترق الحلم.. يد حانية تربت على أحزانه.. يأنس لدفئها ويدفق رعبه بين أحضانها..

يتذكر عبوته.. يهرول إليها متجاهلاً صوت الدفء يندبه.. يحملها ويطلق العنان لغيظه.. يرشق بقاذفاته الحصون الرملية لأشرار الأرض..

سهام الغدر تصوب لصدره المفتوح.. يسقط شادي صريعاً لتبقى براءته كشفا للعواق وسؤاله فضحا للكبار وذاكرته هتكا للأسرار.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة